القاهرة ــ في خريف 1971، سافر صلاح جاهين (1930 ـــــ 1986) إلى موسكو كي يخضع للعلاج النفسي. فقد نصف وزنه، فيما تمسّك الاكتئاب بالنصف الباقي. يصعب معرفة أيّهما كان الأبلغ أثراً في مس روح جاهين باكتئابها العظيم: انهيار الحلم الناصري المصري إثر النكسة، هو الذي مثّل بقصائده العامية وجدان ثورة يوليو؟ أم الجينات الوراثية التي خلقت شخصية تفرح حتى الطيران وتحزن حتى الموت؟ لا يمكن الإجابة الآن عن هذا السؤال. وربما كان اندماج السببين سبباً في وصول صاحب «الرباعيات» إلى حالة وصفها المقربون بأنها «فقدان الرغبة في الحياة»، بل تردد أنّ وفاته، وهو لم يتجاوز الـ 56، جاءت بسبب توقفه الإرادي عن تناول العلاج.على أي حال، سيبقى رحيل الشاعر والرسام والسيناريست والممثل سراً غامضاَ، تماماً كرحيل ابنته الروحية سعاد حسني، لكنْ هناك سرٌّ ربما كان أكثر غموضاً، يتمثل في محاولة الإجابة عن سؤال: كيف استطاع جاهين أن يواصل الإبداع لما يقارب 20 عاماً لم تفارقه خلالها حالة الاكتئاب؟
الاكتئاب ليس حزناً، بل مرض خطير، وأخطر ما فيه أنّه يعطل الإنسان عن عمله، بما في ذلك ـــــ وربما خصوصاً ـــــ الأدباء عن كتابتهم. يصعب مثلاً تحديد ما إذا كان انتحار همنغواي قد حدث لأنه لم يستطع الكتابة فاكتأب؟ أم أنه اكتأب فلم يستطع الكتابة؟ على أي حال، لم يتحمل همنغواي اكتئابه طويلاً فانتحر. هناك آخرون توقّفوا ببساطة عن الكتابة، وبعضهم ظلّ يكتب مكتئباً ـــــ كم تتشابه الكلمتان! ـــــ فتراجعت أعمالهم، وقلة احتفظوا بصفتهم كُتّاباُ ومارسوا مهمّات أخرى. لكن صاحب «على اسم مصر» واصل الكتابة الجميلة حتى في ذروة اكتئابه، رغم أنّ الشعر قد يكون الفن الأكثر احتمالاً للاكتئاب، فالشاعر لا يخطط للقصيدة كما يخطط الروائي لقصته أو المخرج لفيلمه، يعيش الشاعر ويبدع اعتماداً على حساسية روحه وحدها. تلك الروح التي تضل إذا أعماها وأثقلها الاكتئاب. ومنذ اكتئابه العنيف الأول إثر النكسة، ثم المضاعفات التي أصابته برحيل عبد الناصر، إلى أن انطفأ عام 1986، أبدع جاهين عدداً من أجمل قصائده. ولم يتوقف عن الرسم، بل أضاف إلى ذلك كتابة السيناريوات والحوارات والأغنيات، مساهماً بذلك، وبالإنتاج أيضاً، في أفلام منها تحفة يوسف شاهين «عودة الابن الضال». كان ذلك فيلماً حزيناً كتبه جاهين مفرغاً فيه كل مشاعره حيال النكسة وانتصار أكتوبر، لكن ماذا عن «أميرة حبي أنا» و«خللي بالك من زوزو»؟ كان هذان فيلمين فرحين وبديعين، رد إليهما النقدُ الاعتبارَ بعد وقت طويل. أما في زمنهما، فلم يحتفِ بهما سوى الجمهور والإيرادات المرتفعة، بينما هاجمهما وهاجم صاحبهما كل شخص آخر، النقاد وأهل السياسة ـــــ ولا سيما اليسار والناصريين، وكتب فؤاد نجم هجاءً لاذعاً في حق جاهين، هل أسهم ذلك في زيادة اكتئابه؟ يعرف المكتئبون أن لا شيء يجعلهم أسوأ أو أفضل.
حتى في الثمانينيات، الفترة التي وصل فيها اكتئاب جاهين إلى ذروته تمهيداً لرحيله ـــــ ووصف بعض أعماله حينذاك بأنها دون المستوى (دون مستواه طبعاً) ـــــ أبدع الشاعر والرسام بعضاً من أجمل أغنياته ولوحاته. وكان عمله الأخير، رسالته الوداعية، أغنيات مسلسل «هو وهي»، أحد أعذب الأعمال الدرامية المصرية في الثمانينيات، الذي أدّى بطولته (ابناه الروحيان) أحمد زكي وسعاد حسني. هؤلاء جميعهم رحلوا في مقتبل العمر، من دون أن يسلم أيّ منهم من الاكتئاب. ربما كانت الجينات في النهاية هي التي تحسم المسائل، في الأزمنة الصعبة، وأمام مشهد الأحلام المهدورة.



سيرة

أحد أعظم شعراء العامية في مصر، مثّل صلاح جاهين نموذج الفنان الشامل، وأسهم في صنع عصر مصر الذهبي في الخمسينيات والستينيات. أبدع في كتابة العامية المصرية مستخدماً تعابير الشارع في قصائده التي حملت بعداً فلسفياً وعصارة مشاهداته وتجربته في الحياة، وقد عدّه النقاد امتداداً لبيرم التونسي.
عمل رساماً في العديد من الصحف، آخرها «الأهرام»، وكتب العديد من الأغنيات العاطفية والوطنية، التي أداها عشرات المطربين، منهم عبد الحليم حافظ، وكتب سيناريوات وحوارات أفلام مثل «خللي بالك من زوزو» (1972) و«شفيقة والمتولي» (1978). ومثّل في «شهيد الحب الإلهي» (1962) و«لا وقت للحب» (1963)، و«المماليك» (1965)، كما ألّف العديد من مسرحيات العرائس منها «الليلة الكبيرة» وأوبريت «القاهرة في ألف عام» (1969). أضف إلى ذلك رسومه الكاريكاتورية في مجلتي «صباح الخير» و«روز اليوسف»، قبل أن ينتقل إلى صحيفة «الأهرام». غنّى لثورة يوليو وجمال عبد الناصر، لكن بعد النكسة، أصيب بكآبة مزمنة، واتجه إلى كتابة الشعر التأملي العميق كما في الرباعيات (الأشهر بالعامية) التي كتبها قبل النكسة، والأغاني التي أدّت بعضها الممثلة سعاد حسني في فيلم «خللي بالك من زوزو». ملحّن هذه الأغاني لم يكن سوى كمال الطويل، الذي لحّن له سابقاً أغانيه الوطنية والثورية مثل «صورة» و«يا أهلا بالمعارك» و«بستان الاشتراكية». كما لحّن له آخر أغانيه الوطنية وهي «راجعين بقوة السلاح» التي غنتها أم كلثوم عشية النكسة. وتبقى «الرباعيات» أجمل ما كتب، وقد لحنها الراحل سيد مكاوي، وغنّاها علي الحجار.