كولاج بلاغي ثريّ بالإحالات

  • 0
  • ض
  • ض

واجه إدوار الخراط في غيبوبته الأخيرة أصعب أنواع الأقدار. باغته مرض الزهايمر، فأصابه بطعنة النسيان. أن تكون روائياً تحوم في فضائك التخييلي مئات الشخصيات ولا تتذكّر المصائر التي اخترتها لها بسبب النسيان، عقوبة عسيرة الهضم. لا نعلم كيف تداخلت في ذهن صاحب الوقائع التي سردها طوال عقود، وهل انتقلت شوارع الإسكندرية إلى القاهرة أم إلى الصحراء، وهل عصفت الرمال بطبقات التاريخ التي رصدها بعمق في «رامة والتنين» (1980)، تلك التحفة التي لفتت الأنظار إلى طراز سردي مختلف، يقف على الضفة الأخرى لسرد نجيب محفوظ. تحدي صاحب «حيطان عالية» بتأصيل نص تخييلي مارق أتى باكراً، بانتباهه إلى المناطق المعتمة في النفس البشرية، أو الإنصات إلى الداخل لإضاءة مغاليق الذات المعذّبة، وذلك بحشد مكونات جمالية متعددة في تطريز نصوصه، عبر كولاج بلاغي ثري بالإحالات. هكذا تتناوب الشهوانية، والشطح الصوفي، والأسطورة على قماشةٍ واحدة. في «ترابها زعفران»، نذهب مأخوذين إلى مدينته الإسكندرية، في ما يشبه نشيداً روحياً، بتشابكات جمالية تنطوي على شغف عميق بهواء المدينة البحرية، ومكوناتها التاريخية، وتنويعاتها الإثنية. حمّى سردية آسرة، وشجن ذكريات، ومرثية لزمنٍ طواه النسيان. تكمن أهمية مساهمة هذا الروائي الرائد بتمرّده على الأصول الراسخة للقصّ، فهو صاحب انعطافات كثيرة في مسالك الكتابة، والمواقف الإنسانية في آنٍ واحد. الشاعر أولاً، ثم القصّاص الذي نبش المناطق المهملة في خيارات شخوصه ومسالكها الحياتية، والروائي الذي حفر في تضاريس التربة العميقة لاستخراج الأحجار الثمينة وصقلها وإعادة البريق إلى روحها، والناقد التشكيلي الغارق في معنى اللون، والناقد السجالي. هذه الفضاءات المتجاورة كانت الجدار الذي استند إليه صاحب «الزمن الآخر» في إرساء ملامح هجنة إبداعية لافتة، من دون ضفاف، وتالياً يصعب تأطير تجربته في مناخٍ واحد، إذ تتجاور في مدوّنته مختلف نوازع النفس البشرية: العنف، الهزائم، الانكسارات، سلالم الصعود والهبوط، الخيبة، اليأس، الخوف، ليس بوصفها عناوين عمومية، إنما أرضية صلبة لاحتدامات درامية متشابكة، تضع المتلقي في منطقة اللهاث المحموم لمعرفة مآل شخوصه، في معاركها الضارية مع واقع شرس ومتوحش. إنه روائي المكان بامتياز، ومؤرخ إسكندرية أخرى، مطرّزة بكل ألوان الطيف، بحبر غوّاص محترف، وعاشق جسور، وصاحب مخيّلة بحالة استنفار دائم. الشبق التخييلي لم يتوقف عند هذا الحدّ،. في تسعينيات القرن المنصرم، ابتكر إدوار الخرّاط مصطلحاً نقدياً أثار سجالات كثيرة حوله، هو «الكتابة عبر النوعية»، بالإضافة إلى مصطلح آخر هو «الحساسية الجديدة»، في إشارة إلى تمازج وتنافر الطبقات السردية للنصّ المكتوب، وتطلعه إلى نسف التقنيات الراسخة عن طريق استثمار خصائص الفنون الأخرى. وبذلك كان صاحب «مخلوقات الأشواق الطائرة» يعبّر عن قلقه المستمر من سكونية نصّه، والعبور به إلى آفاق بلاغية أرحب. ولكن، هل دمّر الزهايمر أخيراً، كل هذه «المخلوقات الطائرة» في ذاكرته، كي يذهب إلى البياض التام في اسكندريته المشتهاة؟ تبّاً للغيبوبة التي خطفت قبله مباشرة جمال الغيطاني، مؤرخ سحر القاهرة وتجليات عمارتها. كأن جدارية السرد المصري التي رفعها جيل الستينيات على أكتافه منذورة للموت، من خيري شلبي ومحمد البساطي، إلى إبراهيم أصلان، وجمال الغيطاني، لتتوقف أخيراً عند إدوار الخرّاط.

0 تعليق

التعليقات