عندما نُصح الفيلسوف الفرنسي جان روستان بوضع الحصى في فمه، لعلاج مشكلة التلعثم، ابتلعها... أمّا ملك بريطانيا جورج السادس (1936 ـــ 1952)، فلم يستسلم لليأس في مواجهة مشاكله في النطق. بصق كرات الرخام الصغيرة، واتجه إلى طرق علاجية أخرى أقلّ أرثوذكسية. أن تكون ملكاً، وتعاني التأتأة، أمر يبدو متناقضاً مع متطلبات هذه «الوظيفة»، وخصوصاً على أبواب حرب عالمية ضروس.
في فيلمه الروائي الطويل «خطاب الملك»، يسلّط توم هوبر الضوء على جزء من سيرة الأمير ألبرت، دوق يورك، قبل صعوده إلى العرش. يستند في ذلك إلى سيناريو للكاتب البريطاني ـــ الأميركي دايفيد سايدلر. شريط السينمائي البريطاني مرشّح حالياً لدزينة كاملة من جوائز الأوسكار المرتقب إعلانها في 27 شباط (فبراير) المقبل. ترشّح الفيلم لأكثر من سبعين جائزة أخرى، وفاز بـ 16 من بينها «غولدن غلوب» أفضل ممثل، للبريطاني كولن فيرث، عن أدائه لدور الملك. كلّ هذا يجعل من The King's Speech الحدث السينمائي التجاري الأبرز في الصالات السينمائية العالمية حالياً. لكن ليس كل ما يلمع ذهباً! لا يبدو الفيلم أكثر من ثمرة جديدة للمعادلة الهوليوودية الأثيرة، وإن كان إنتاجاً بريطانياً، مغرياً على السطح، خاوياً في العمق. تبدأ أحداث الفيلم عام 1925، على عهد الملك جورج الخامس. يأمر الملك ابنه، الأمير ألبرت، بإلقاء كلمة بدلاً عنه، في اختتام «المعرض الإمبراطوري» في «مدرّج ويمبلي». تتحول مواجهة الأمير للميكروفون إلى حدث مثير، ينتهي بفشل ذريع أمام ممثلي 58 دولة كانت خاضعة لسلطة الإمبراطورية البريطانيّة... يبني الفيلم حبكته الرئيسية على هذه الخيبة، وينطلق لمتابعة صراع الأمير ألبرت ــــ أو بيرتي كما يلقّبه أفراد عائلته ــــ للتغلب على صعوباته في النطق. تعثر زوجة الأمير فيكتوريا، الملكة الأم لاحقاً (هيلينا بونام كارتر)، على طبيب أوسترالي من «عامة الشعب»، يدعى ليونيل لوغ (جيفري راش) يمكنه معالجة تأتأة الأمير، بطرقه الخاصة. على مدى ساعتين، يتعقّب الفيلم رحلة العلاج، بموازاة الأحداث التاريخية في الفترة تلك، من موت جورج الخامس، إلى تنصيب ابنه الأمير إدوارد خلفاً له، ثم تنحّي الأخير عن العرش من أجل الزواج بحبيبته الأميركية المطلّقة، وبالتالي تتويج ألبرت ملكاً بديلاً على بريطانيا عام 1937، تحت لقب جورج السادس... كلّ ذلك وسط صعود التهديد النازي، ووقوف أوروبا على شفا الحرب.
مشكلة شريط توم هوبر أنّه يغضّ النظر عن الأحداث المهمة التي شهدتها بريطانيا في تلك المرحلة، ويكتفي بحدوتة «الملك المتلعثم». يغلّف السينمائي الدراما الفرديّة في إطار سطحي من الدراما التاريخية. النتيجة فيلم تجاري سهل للهضم، وجذاب جداً... في حفلات توزيع الجوائز. مع ذلك، نجد أنفسنا أمام عمل حرفي من الناحية التقنية، وأمام صورة جميلة، يعود الفضل بها في الدرجة الأولى إلى أداء كولن فيرث، وجيفري راش، وهيلينا بونام كارتر. يؤدي التصوير السينمائي الجذاب دوراً في ذلك أيضاً، من خلال استخدام زوايا متعددة للكاميرا، والتفاعل بين ألوان الديكور والأزياء. في الخلاصة، خرج هوبر بصورة باهرة وذكيّة، تضاف إليها الموسيقى التصويرية للفرنسي ألكساندر ديبلا.
لكنّ الموازنة ما بين التقنيات السينمائية والتعبيرية، والمضمون لناحية استعادة البيئة التاريخية بقضاياها ومشاكلها، تجعل الدفة تميل بوضوح إلى مصلحة الشكل على حساب العناصر الأخرى. تبدو الخيوط التي تتعلق بها الحبكة واهية. يريد المخرج إظهار العلاقة ما بين الطبقة الحاكمة وعامة الناس، من خلال العلاقة بين الأمير ألبرت/الملك جورج السادس وطبيبه لايونل. يركّز الشريط على تيمة التواصل، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، وأهميتها في ذلك المجتمع الطبقي. لكنّ كلّ هذا يبقى عالقاً في متاهة الانحياز الواضح إلى السرد السطحي. هكذا، لا يخوض الشريط في العلاقة الشائكة التي كانت تجمع ما بين جورج الخامس وأبنائه، ويأتي المرور على دور تشرشل مروراً سريعاً. في الخلاصة، تبقى العلاقة ما بين الأمير ومعالجه غير مقنعة، من خلال تركيز المخرج على الجانب الفكاهي، فيما بقيت خلفيات الشخصيات مبهمة، وبقي نموها في إطار الفيلم ضعيفاً...
هذه الجوانب السلبية لا تعني أنّ المشاهد لن يستمتع بـ«خطاب الملك»، لكنه بالتأكيد لن يُشغَل به على المستوى الفكري. لكن التفاعل مع الفيلم قد يختلف من جمهور إلى آخر، والأثر الذي سيتركه ـــ بعيداً عن تجربته الجمالية الخالية من التجديد ـــ سيتحدد بمرور الزمن. في أحد مشاهد الفيلم، يأمر المعالج لايونل الأمير ألبرت، بأن يقرأ مقطعاً من هاملت، وهو يستمع إلى موسيقى مرتفعة، تطغى على صوته، فتختفي التاتأة... كأنّه لا يصير طليق اللسان، إلا عند حديثه مع نفسه داخلياً، في انقطاع تام عن محيطه الخارجي. قد يدفعنا هذا المشهد إلى التأمّل كجمهور عربي. كأنّه يذكرنا بما نسمعه حالياً من خطابات للزعماء العرب، تشوبها وعود إصلاح، أشبه بالحواريّة الذاتية... بعيداً عن صوت الثورة الطاغي.



في الصالات اللبنانية ابتداءً من 17 شباط (فبراير) المقبل ــــ «غراند سينما»
، «سينما سيتي» (01/899993)، «إسباس» (09/212516)، «دون» (01/792123).