لا ينصتون. لا أحد يريد أن ينصت. لا يتعلّمون. لا أحد يريد أن يتعلّم. ما نشهده الآن على امتداد الخريطة العربية ليس زواجاً كاثوليكياً بين الأنظمة وشعوبها: إنه اغتصاب أبديّ. خلال بضعة عقود من الزمن (هي الفاصل بين انتفاضات الاستقلال وانتفاضات اليأس) اغتُصب كل شيء: حقوق البشر، أحلام البشر والكرامة الإنسانية للبشر، ولم يترك لهم من حقّهم في الحلم غير أن يصرخوا: نريد رغيفاً. حتى إذا حان موعد التصدّق بالرغيف، صرخ الجياع: تحيا العدالة. هكذا يتحول حق الحياة إلى رشوة. لقد جرى، مع الوقت وبصورة ممنهجة، تغييب الحاجات الأساسية للناس (الحاجات المتصلة بما كان يسمّى في قواميس الماضي وطناً) ولم يعد بمستطاع أحد التفكير في مستقبل وطنه، بل في واقع أمعائه. «نريد أن نأكل» تصرخ الشعوب. نريد ماءً وكهرباء ومحروقات وألبسة أطفال وأدوية... من مشتقات الحاجات الأولية لقاضي الإسطبل.
ما عادت الشعوب تسأل: ما الذي تفعله أميركا؟ ما الذي يفعله الإسرائيليون؟ وما الذي يفعله وكلاء أميركا وإسرائيل؟ إلى أين تمضي مشاريع الرأسماليين «الوطنيين» أباطرة الجرائم الكاملة؟ أبداً، ما عادت هذه الشعوب قادرة على التحلّي بترف الأسئلة. الكل يريد أن يظل على قيد الحياة، على قيد الصبر، على قيد معالف الإسطبل. هكذا تتقلص مشاريع الحياة ومشاريع الأوطان وتتحول إلى شأن «معويّ». هكذا يجري تحويل الإنسان إلى مجرد دابّة.
ما شهدناه ونشهده منذ عقود، وعلى امتداد القارة العربية، ليس لمجرد استلاب للحرية: إنه إذلال خالص. إذلال تفاقم واشتدّ، ولم يعد أمام اليائسين من أدوات الدفاع عن الحياة غير المقامرة بالحياة: ثورات يموت فيها مئات الناس، لا لكي يُرقّوا إلى مرتبة بشر، بل فقط لكي يُسمعوا صوتهم: «نحن جائعون». في هذه الحالة، في هذه الحالة فقط، حين تتعذر إمكانية السيطرة على هياج اليائسين، يبدأ يأس الأنظمة، وتبدأ بالإنصات. هكذا تمنح الأنظمة نفسها صفة الأنظمة المتسامحة، الديموقراطية، المتفهّمة. هكذا تمنح نفسها ـــ أمام نفسها والعالم ـــ صفة الأنظمة الحرة الصالحة للحياة.
أبداً ليست هذه الحرية (أيّ حرية هذه أن يضطر البشر إلى الموت ليظفروا بحق طلب النجدة؟!). إنه شيء أشبه بحق المحكوم بالشنق في الإدلاء بوصية أخيرة، أو رجاء أخير، أو شربة ماء أخيرة. شيء أشبه بسيجارة قبل تنفيذ حكم الموت: حيلة بائسة لتسويغ مذاق الموت.
ولنعترف: ما من نظام عربي يعنيه شعبه. ما من نظام يفكر في حماية شعبه، بل في حراسة لأبديته.
الأسوأ أنّه ما من نظام عربي لا يملك ما يكفي من وثائق البلاغة لإثبات مزاعمه في ما يخص مسألة العدالة والحرية. شخصياً (انتبهوا!) يحقّ لي التحدث دونما خوف، عن مثالب النظام المصري. المواطن السعودي (انتبهوا!) يمكنه، دونما خوف، التحدث عن مثالب النظام السوري. الليبيّ (انتبهوا جداً!) يمكنه، بكامل الشجاعة وفصاحة اللسان، التحدث عن مثالب الجميع. لكن لا أحد (باستثناء من اتخذوا قرار الإعدام بحق أنفسهم) يجرؤ على التحدث عن مثالب أهل البيت.
هكذا، مع الوقت، باتت خيارات المواطن العربي تضيق وتضمحل بحيث يمكن اختصارها في المفاضلة بين أنماط من الاستبداد: أحدها يسلب الحرية تحت غطاء مواجهة الخطر الخارجي، وآخر يسلب اللقمة تحت غطاء الإصلاح الديموقراطي (أو العكس)، وآخر يسلب الحرية واللقمة معاً تحت غطاء الشرعية...
ما لا أريد نسيانه أنّ المعارضات العربية، في أحيان كثيرة، باتت أشدّ سوءاً من أنظمتها المستبدة. إما أنها معارضات مراهقة ليس لديها مشروع وطني إنساني، وفي النهاية، ما أخشاه أنّ من سيقطف الثمرة (ثمرة رحيل مبارك ـــ أو سواه ـــ أو ثمرة بقائه) هم الأميركيون والإسرائيليون. وفي يقيني أنّ الأزمة في مصر لن تنتهي بعد رحيل مبارك. الأميركيون وشركاؤهم الأوروبيون ينتظرون لحظة استقرار المؤشر الميداني في مصر ليبدأوا عملهم الحقيقي: حماية مصالحهم، والاطمئنان على أمن إسرائيل (في كل ما شهدناه على الشاشات، لم نسمع كلمة واحدة عن أميركا وإسرائيل). وفي النهاية ـــ حين يوافقون ـــ لن يوافق الأميركيون على رحيل مبارك بسبب سوء نظامه وعدم شرعيته... بل بسبب انتهاء صلاحيته كحارس لمصالحهم ومصالح إسرائيل. إن الديموقراطية (يا للكلمة المراوغة!) هي آخر ما يهمّهم. وإذا تذكرنا بمن استعانت أميركا في حربها ضد «أعداء الديموقراطية: الشيوعيين» في أفغانستان، يمكننا الآن تقدير خاتمة السيناريو المصري. وماذا عن مستقبل المعارضة؟ حسناً، سيُؤذن للمعارضة بالإقلاع فقط حين توافق على تقديم الضمانات لأميركا. بمعنى آخر: سيؤذن لها فقط حين يتبيّن أنها تحولت ـــ صاغرة أو راضية ـــ إلى بديل صالح لتسلم الميراث. أعني إلى نسخة منقّحة ومحسّنة عن طبعة مبارك القديمة والمستهلكة. الأحداث تقول: لننتظر. والأحلام تقول: أرجو أن أكون على خطأ.
(دمشق)