كان يمكن ذاك الشريطَ أن يكون مجرّد محطّة أساسيّة في مساره السينمائي، فإذا به فيلمه الوصيّة. «طوفان في بلاد البعث» الذي انقطع عمر أميرلاي بعده عن التصوير، يبدو لنا الآن أكثر من مراجعة شخصيّة، ونقد للواقع السياسي والاجتماعي، وتفكيك للأيديولوجيا المهيمنة. إنّه خريطة طريق للمرحلة المقبلة، ودعوة إلى إعادة كتابة المستقبل بوعي جديد، وأدوات مختلفة. المبدع والمثقّف السوري الذي غادرنا على حين غرّة، لم يقف وراء الكاميرا منذ عام ٢٠٠٣. لانشغاله بنشاطات أخرى ربّما، لصعوبة المرحلة على الأرجح وقسوتها. لتدافع الأحداث الكبرى، وتفاقم الانحطاط العربي، واشتداد وطأة الحصار الرقابي والإنتاجي. كان يتلاعب على اليأس بالإعداد لباكورته الروائيّة الطويلة، عن حياة الممثلة السوريّة «إغراء»، ولعلّها شاهد آخر على زمن الانهيارات. لكنّه رحل من دون تحقيق هذا الحلم، ليبقى ذلك السينمائي الذي يصنع مادته الروائيّة من رصد الواقع فقط، ومن توثيقه، والكشف عن مفارقاته.
عمر هو الشاهد الذي واكب صعود الأوهام في أيّار ٦٨ الباريسي، ثم سجّل سقوطها على ضفاف بحيرة الأسد حيث بدأ طريقه قبل ثلاثة عقود ونيّف. عمر رفيق سعد الله ونوس الذي كرّس له فيلماً مرجعياً، هو درس في السينما كآلة لعبور الزمن. حفّار قبور هارب من مسرحيّة لشكسبير، كان دليله إلى مجاهل الحرب الأهليّة اللبنانيّة. إنّه الرجل العربي الذي التقى بيناظير بوتو، أوّل امرأة مسلمة تتولّى الحكم في الأزمنة الحديثة. واليساري الذي استسلم لغواية شخصيّة مقلقة، جامعة للتناقضات، مثل رفيق الحريري. وفي الختام، اختار لحياته مشهد النهاية التي تليق به: لقد أغمض عينيه على الشاشة الصغيرة وهي تنقل وقائع التمرّد الشعبي الذي هزّ عرش الطاغية في مصر، وكشف الغطاء عن القوى الرجعيّة المختبئة في ظلّه النتن، رافعةً لواء «الحريّة» و«السيادة» و«الاستقلال».
أغفلت عين عمر أميرلاي، والكاميرا ما زالت تدور. وفي دمشق يرتسم جيل من الورثة. عليهم أن يبذلوا جهداً خارقاً، كي يعوّضوا شيئاً من هذا الغياب.