دمشق| وسط غياب رسمي تام، ودّعت دمشق أمس عمر أميرلاي (1944 ـــ 2011) بحضور حشد من المثقفين والسينمائيين السوريين واللبنانيين، أمثال: رياض الترك، ميشال كيلو، أسامة محمد، محمد ملص، نبيل المالح، فواز طرابلسي، سمير ذكرى، عارف دليلة، أحمد معلا، محمد علي الأتاسي، هالة عبد الله، أسامة غنم، خالد خليفة، موفق نيربية، هالة محمد، سمر يزبك وديما ونّوس... عائلته وزملاؤه ورفاقه بدوا في ذهول، عاجزين عن تصديق ما يجري، فيما كان جثمانه يوارى في ثرى مقبرة الشيخ إبراهيم، بالقرب من ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي على تخوم جبل قاسيون. وكان الأصدقاء المفجوعون قد توافدوا، أوّل من أمس إلى منزل السينمائي السوري، غير مصدّقين أن القدر يمكن أن ينتزعه بهذه السهولة... وجلسوا في الدار صامتين كما ليحرسوا جسده من العزلة المباغتة.
آخر ما فعله أميرلاي كان التوقيع على بيان تضامني مع «ثورة الغضب» المصرية، ثم سكت قلبه فجأة بعد ظهر السبت. رحيل مفجع، وموت مباغت لسينمائي راديكالي لم يساوم أو يهادن على مشروعه في تحقيق أفلام تسجيلية مثيرة للجدل.
المسافة بين اللقطة الأولى التي سجّلها في كاميراه الخاصة لتظاهرات الطلبة في باريس 1968، و«طوفان في بلاد البعث» (2003)، آخر شريط أنجزه، لم تفعل سوى تأكيد بصمته الشخصية. البصمة التي ظلت حاضرة بقوة في خلخلة اليقينيات، وإماطة اللثام عمّا هو مسكوت عنه. حين عاد من باريس إلى دمشق أواخر الستينيات، بعد دراسة في معهد IDHEC السينمائي الذي كان معروفاً آنذاك، شقّ أميرلاي طريقاً جديدة في التأسيس لمدرسة خاصة في الفيلم التسجيلي.
كانت أفلام تلك المرحلة أقرب إلى الأفلام السياحية، فقرر أن يذهب إلى الضفة المضادة، مدفوعاً بنظرة طليعية في مقاربة قضايا وطنية ملحة. هكذا ذهب إلى الفرات في الشمال الشرقي للبلاد، لتوثيق أولى معجزات النهضة الاشتراكية حينذاك، وعاين عمليات بناء سد الفرات، فكان فيلمه الأول «محاولة عن سد الفرات» (1970). الفيلم ستمنعه الرقابة، لكن محاصرة حلمه الأول دفعته إلى التوغل أبعد، في مراودة قضايا أكثر سخونة. مع سعد الله ونّوس، حطّ الرحال في قرية طينية مهملة تدعى «مويلح» في دير الزور، وعايشا الحياة هناك بكل قسوتها. كانت حصيلتهما شريطاً آسراً بعنوان «الحياة اليومية في قرية سورية» (١٩٧٤). الوقائع الفانتازية عن حياة بشر مهملين وغارقين في الوحل، تبدو في هذا الشريط كمقطع من مسرح العبث. بالطبع، منعت لجنة الرقابة عرض الفيلم. لكن، هل أعلن أميرلاي التوبة؟ سيلتقط مجازاً آخر أكثر عنفاً في فيلمه الثالث «الدجاج» (١٩٧٧)، من دون أن يُفاجأ هذه المرة بالمنع.في الواقع، مُنعت كل أفلامه اللاحقة من العرض محليّاً، إذا استثنينا العروض الخاصة، ليصبح صاحب أكبر قائمة من الأفلام الممنوعة في تاريخ السينما السورية. مطلع الثمانينيات، هاجر إلى فرنسا على خطى مخرج مارق آخر هو الروسي أندريه تاركوفسكي الذي عاش ظروفاً مشابهة في بلاده. في باريس، عمل لمصلحة محطات فرنسية، وأنجز أشرطة سجالية عن شخصيات إشكالية مثل بيناظير بوتو، وميشال سورا، ورفيق الحريري. وسيكمل هذه السلسلة، إثر عودته إلى دمشق، بمشاركة زميليه محمد ملص وأسامة محمد، فأنجزوا أفلاماً عن فاتح المدرس، ونزيه الشهبندر، وسعد الله ونوس، قبل أن يجهَض المشروع لأسباب كثيرة.
من موقع المثقف العضوي الذي كان يحتله، أراد صاحب «مصائب قوم» في التسعينيات، أن يعيد الألق إلى «النادي السينمائي» أحد أبرز تجليات الثقافة المستقلة والحراك المدني في سوريا (1974 ــــ 1981). لكن التجربة لم تنجح، بعدما منعت وزارة الثقافة عروض النادي في الصالات السينمائية بحجة وجود ورشة يسارية «مريبة» في إدارة النادي.
يعمل أميرلاي على الحدس في التقاط موضوعات أفلامه. لكن حالما تدور الكاميرا، يكتشف أنه يخوض في حقل ألغام ورمال متحركة. كاميراه تتوغل في المناطق المحرّمة، وتشتبك مع الواقع مباشرة. سينماه مزيج من الروائي والمسرحي.
أبطاله يظهرون من دون أقنعة، في هذه الوليمة العارية. لعل اللغة البصرية الاستثنائية التي كان يستخدمها في نصب الفخاخ أمام واقع ملتبس، أشبعت رغبته في الإخلاص للسينما التسجيلية من دون أن يخوض مغامرة روائية واحدة. ذكر مرةً أنه لو فكر في إنجاز فيلم روائي، سيختار رواية ماركيز «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، لكنه أهمل الفكرة لينخرط في مشاريع تسجيلية أكثر إلحاحاً على مخيّلته. هكذا أتى فيلمه الأخير «طوفان في بلاد البعث» مرثية لأحلامه الأولى التي حققها في «محاولة عن سد الفرات». أغلق القوس على عالم جحيمي تكشّف عن رؤية مغايرة عمّا كان يرجوه قبل أكثر من ثلاثة عقود في محاولة لتصحيح الصورة عبر محاكمة قاسية لا تخلو من نقد صارم لأوهامه القديمة. مكاشفة نقدية ساخنة، لما آلت إليه أوضاع البلاد وصرخة تحذير لتصحيح وضع أكثر منه تصفية حساب. المخرج يحاكم نفسه علناً هنا، بوصفه شريكاً قبل أن يحاكم السلطة.
على الأرجح، هذه الخيبات المتلاحقة، وضعت صاحب «الحب الموؤود» (1983) أمام خيارات أخرى في تفكيك هويته اليسارية، فعاد إلى المربع الأول لفحص علاماته الفارقة، وإزالة الغبش عن الصورة المهتزّة.
هكذا راح ينبش تاريخه الشخصي، وينفض الغبار عن سيرة عائلية ملتبسة، في مشروع سينمائي لم ير النور بعنوان «جدي العثماني». اكتشف أخيراً جذوره الأولى بخليطها التركي والشركسي والعربي، عن ذلك الجد الذي انحدر من بلاد الأناضول ليستقر في دمشق ويؤسس سلالة جديدة.
مشروعه الأخير «إغراء تتكلم» الذي لم يبصر النور أيضاً، مرثية لحال السينما السورية، من خلال استنطاق ممثلة جريئة، غامرت في الظهور عارية في فيلم «الفهد» (1972) مع المخرج نبيل المالح، وكيف تراجعت الذائقة السينمائية لاحقاً، ليمتدّ مقصّ الرقيب، ويمحو المشهد رقم 24 من الشريط، بعد سنوات من عرض الفيلم، بحجّة بند أخلاقي مستعار.
8 تعليق
التعليقات
-
تحيه لجريده الأخبارقرأت كل التعليقات .انني يساريه ومثقفه ولكن ما هو مؤلم ــأنني لم أطلع على فكر المبدع . أحمل مثقفي وكتاب جريده الأخبار الكثير من المسؤوليه.
-
خلخة اليقينرحم الله عمر اميرلاي ,لاشك ان عمر اميرلاي انسان مبدع, سعدت لانه توفي و دفن في دمشق ولم يتوفاه الله في الغربة في باريس أو في استانبول او في غروزني وهو في طريقه في البحث عن جذوره.لقدأنصف السيد صويلح المرحوم اميرلاي عندما قال عنه :(إنه لم يهادن او يساوم يومافي صنع افلام تسجيلية مثيرة للجدل مع تأكيد بصمته الشخصيةفي خلخة اليقينيات)واضيف من عندي واحتكاره معرفة الحقيقةوكثيرا من نرجسية الفنان و غربته عن محيطه.فعمر اميرالاي يعرف بهندسة السدود والجدوى الاقتصادية الاجتماعية أكثر بكثير من المهندسين السوفييت الذين بنوا سدي الفرات وأسوان, وبنازير بوتوايضا من أشنع نساء العالم وقد أجرت حسب قوله ل- جيزيل خوري في احد البرامج - اكثر من15 عملية تجميل ,كما إنه كان يشعر بالمفارقة العجيبةعندما أدى الخدمة العسكرية في السبعينات برتبة رقيب مجندمع إنه حفيد اميرالاي ,والقائمة تطول وتطول وأخر الاشياءالتي يجب ان تعرفهاوتتدارسها الاجيال الشابة حاليا السيرة الذاتية للمناضلة إغراء,وهل السيدة إغراء يسارية ايضا.
-
هل عمر أميرالاي يساري؟ألم يحن الوقت للتدقيق بكلمة يساري... يعني الياس عطالله ورياض الترك وسمير قصير وعمر اميرالاي يساريين؟؟!! أرجو من الاستاذ خليل أن يعود لقراءة الثورة الفرنسية ليتذكر أصل مفردتي اليسار واليمين. لأنه على هذا الأساس سيصبح رفيق الحريري _أحد ملهمي أميرالاي وسمير قصير _يساريا وليس بغريب أن يصبح عبدالله الدردري ويمكن سمير جعجع يساري... وتلفزيون العربية والحرة ستصبح يسارية..والراحل أميرلاي كان يراهم كذلك
-
لماذا ؟؟أولا اللة يرحم عمر أميرلاي ثانيا لماذا لا نسمع عن أشخاص بهل الحجم إلا إذا مات أحدهم أو غادر البلاد أو أدخل السجن؟ لماذا لا تولي أغلب وسائل الاعلام السورية اهتماما بالمبدعين و الأدباء السوريين؟ ولا مشغولين بملحمة أبو جانتي (السمج)و بالفنانة السورية أصالة إذا رح تغني وهيي ع الكرسي او واقفة بهلا فبراير لانا حامل. حتى بالمناهج المدرسية لا يوجد إلا ذكر لأسماء بعض الأدباء السوريين لأننا مهتمون بالأدب الجاهلي وببعض الابيات المنتقاه بحذر لنزار قباني. مثلا نحن ندرس اللغة العربية من الصف الأول حتى السنة الاولى بالجامعة ومافي بهل المناهج ولا نص لادونيس أو محمد الماغوط أو حنا مينة أو ... صار عمري 20 سنة وهلأ بلشت اقرا لهل العالم اساسا منيح يلي صرنا نسمع فيهن بين أوساطنا الشبابية المتأثرة بالثقافة السائدة السطحية يعني كان لازم أنطر الصبح حتى اقرأ جريدة الاخبار حتى أعرف عن أميرلاي فشكرا جزيلا لفيلق ثقافة وناس وكاسك يا وطن
-
بكير يا عمركنت قد عرفت بخير وفاة عمر من خلال قناة فرانس24 حينها قمت بحركة غباء أجهل سببها فغيرت المحطة فوراً لأرى الفضائية السورية، بالطبع لم يكن هناك أي خبر عن وفاة مخرج سينمائي بقامة عمر، لكن الأمر الدال جدا كان التالي: كانت الفضائية السورية تعرض فيماً تسجيلياً عن رحيل ممثل سوري رحل مؤخراً يدعى ياسين أرناؤوط وتستجلب الشهادة تلو الشهادة من هذا الممثل وذاك ومع كل الاحترام لروح هذا الممثل فهل من سوري أو سورية قد سمعوا به وبوفاته أصلاً؟؟ حقاً هذا هو الطوفان في بلد البعث حتى لو كان عمرك يوم الوفاة 90 عاماً فسأقول لك بكييير يا عمر
-
الغياب الرسمي التام مفهومالغياب الرسمي التام مفهوم جداً و هو رد على كل الذين يهتفون للنظام في سوريا على عماهاكما يقال و بطريقة تثير ردة الفعل، لو كانت الحكومة السورية و النقابات و مؤسسات الدولة حرة لكانت على الأقل وجهت بتكريم أميرلاي مثل أي مخرج صاحب أعمال ملفته فكيف بشخص مبدع مثله ، واحسرتاه عليك يا وطني
-
من تسأللا اعرف كيف سيجيب صويلح عن هيدا السؤال، منذ ايام كتب في جريدة محلية ان هشام بن عبد الملك كان ياتي الى الرقة من بغداد التي لم تكن مبنية في حينه، الله يرحمك يا عمر
-
راديكالي لم يساوم أو يهادن على مشروعهلست خبيرا في افلام أميرالاي شاهدت بعض منها، أما الاسم فكان مألوفا لي كثيرا ما سمعته في الوسط الثقافي في سورية، الصورة التي كونتها عنه لم تكن بعيدة عما ذكر كاتب المقال الى ان شاهدت فيلمه الدعائي عن رفيق الحريري! رحم الله عمر أميرلاي، أتمنى من خليل صويلح ان يجيبنا كيف تستقيم العبارة "سينمائي راديكالي لم يساوم أو يهادن على مشروعه" مع ذلك الفيلم؟