وصلت الروايات والكتب الجديدة التي طلبتها من القاهرة قبل يوم واحد من اندلاع الثورة. شغلتني يوميات «الغضب» عنها. صرت خلال الأيام الماضية كائناً معلّقاً بوقع خطوات إلى الأمام يخطوها تامر، وشوقية، ونائل، وكل من يحمل اسماً مصرياً حلواً، وقرر فتح شبابيك الأمل الزاهي.لم يكن أمامي سوى الانشغال بهم، وبما يفعلون. أعلنت حالة الطوارئ في غرفتي لمتابعة ما يجري في القاهرة. عينايَ على شاشة الكمبيوتر تلاحقان ما يأتي من أخبار الأبطال المعتصمين في جبهة ميدان التحرير. لم تنقطع الأنغام المصريّة عن فضاء الغرفة منذ أيام، لمنحها حياة مصريّة بحتة، توزعت تفاصيلها بين الشيخ إمام وسيّد درويش «وما لكش حق تلوم عليّا»، ومنير وثومة و«وقف الخلق ينظرون جميعاً/ كيف أبني قواعد المجد وحدي».
وقفت أنا أيضاً ورأيت وابتهجت... وذرفت دمعتين وأكثر.
لم يعتقد أكثرنا تفاؤلاً أن يتحوّل حائط الـ«فايسبوك» إلى ساحة ثورة حقيقية في هذا الوقت القياسي. لم يعد ذلك الفضاء الإلكتروني افتراضياً، بل صار كائناً مفرطاً في واقعيته، يفرض شروطه على اللعبة، قائلاً إن الدرس انتهى، وإن على بهية أن تفرد ضفائرها على «الترعة» وأن «تغسل شعرها». فقد هرب الابن المدلل «جيمي» برفقة عائلته و97حقيبة، هي كل ما يربطه بـ«الوطن»، لكنه نسيَ أباه في القصر! لا بأس، فقد نزل الأولاد والبنات إلى الشوارع ولن يعودوا إلى بيوتهم قبل أن يرحل «رأس النظام» لاحقاً بوريثه.
ونحن كنا نراقبهم من هنا، بمواجهة الشاشة، ونرى الرغيف وهو ينتقل من يد إلى أخرى، ونسمع أغاني الثورة القديمة تستعيد شبابها على أفواه المعتصمين... «واتقل علينا بالمواجع/ إحنا اتوجعنا واكتفينا/ وعرفنا مين سبب جراحنا/ وعرفنا روحنا والتقينا». كانت هذه الأغاني كافيةً لطرد برد الليل وشبح النعاس، فيما بقيت للصباح أغنيته الوحيدة: «الشعب يريد إسقاط النظام». سمعناها تنطلق من حناجر فتية تونس، معلنةً نهاية 23 عاماً من القهر والحياة السوداء. وأعاد ترديدها شباب مصر فارضين حصارهم على فرعون شرم الشيخ.
تهاوت الأصنام سريعاً كاشفة الستار عن نظام كرتوني هشّ. نظام كان بلطجية أقسام الشرطة يسيِّرونَه، جاعلين من نهار المصري جحيماً حقيقياً، وحياته محتجزةً في قمقم نظام طوارئ، كأنّه قانون إلهي لا مفر منه. لكنّ اللعبة وصلت إلى نهايتها.
إنّه زمان يليق بنا وينادي علينا، نحن أصحاب الرقم التالي الواقفين في الطابور منذ 33 عاماً. جميعنا ننتظر لحظتنا، مترقبين انطلاقة الصوت المنادي على الرحلة التالية، رحلتنا. ما علينا سوى الانتظار، فقد اقترب الموعد ولم يبق لـ«أولاد وسط البلد»، هناك في القاهرة، سوى بضع خطوات، ليكملوا آخر فصول قصتهم التي خطوها بالنور والأمل. خطوات قليلة تفصلهم عن أيام مختلفة... تليق بهم.
«أهل الهوى يا ليل فاتوا مضاجعهم وتجمعوا صحبة وأنا معهم»، في ميدان التحرير هذه المرة. لقد كنت معهم.
(صنعاء)