القاهرة ــ رغم تمسّك حسني مبارك بكرسيه حتى ليلة أمس، فإن دعائم نظامه تهاوت قبل عرشه ببعض الوقت. ويمكن القول إنّ حصار المتظاهرين لـ«التلفزيون المصري» أمس، قبل تنحّي الطاغية، لم يكن هدفه اقتحام المبنى وإعلان سقوط النظام فقط، بل حملت هذه الخطوة أيضاً أبعاداً أخرى، أبرزها تأكيد الغضب الشعبي على النظام الإعلامي المصري الذي أسهم في العقود الثلاثة الأخيرة في خداع الشعب المصري... ما أدى إلى هجرة جماعيّة منذ سنوات إلى الفضائيات العربية.اليوم، تغيّرت قواعد اللعبة، بعدما أنهى الشعب الغاضب، مساء أمس، عهداً من التزوير المنهجي للحياة الوطنيّة والسياسية... فاتحاً مرحلة مشرّعة على الأمل بالتغيير السياسي والإعلامي. لقد ولّى زمن أنس الفقي، وزير الإعلام الذي «صمد» في منصبه حتى اللحظة الصفر، محاولاً الالتفاف ـــ من دون جدوى ـــ على التغطية الفاضحة لأيام الثورة الأولى. لكن كل المصريين كانوا يعرفون أن استمرار الفقي في منصبه مرتبط باستمرار مبارك نفسه في الرئاسة. ورغم أنّ وزير الإعلام حاول في الأيام الأخيرة أن يلعب دوراً في تهدئة الأوضاع، فإنّه كان يعرف أن ساعاته معدودة.
وهنا، نشير إلى أن أشهر وزير إعلام في تاريخ مصر الحديث، أي صفوت الشريف، أسقطته الثورة المصرية، بعدما أقيل من منصبه كأمين لـ«الحزب الوطني الديموقراطي» الحاكم. وصفوت الشريف هو نفسه الرجل الذي افتخر لسنوات بأنّه المؤسس الحقيقي للإعلام المصري الحديث، في حين أنّ التاريخ سيحفظ اسمه بصفته الرجل الذي أفسد المهنة. ومع السقوط المدوّي لهذين الرمزين، بات الباب مشرّعاً أمام فتح ملفّ إفساد الإعلام المصري منذ منتصف الثمانينيات، حتى وصول أنس الفقي إلى الحكومة. هذا الأخير لم يكن صاحب تاريخ سياسي أو ثقافي، اللهم إلا علاقته الطيبة بنجلي الرئيس «المخلوع» جمال وعلاء مبارك اللذين هربا من البلاد بعد 25 يناير. وما إن وصل إلى وزارة الاعلام حتى بدأ حملة لـ «تجميل» التلفزيون. تجميل خارجي فقط. ثم جاءت العاصفة لتكشف زيف المملكة التي أسّسها، وتبيّن أن التلفزيون منبع الأكاذيب والاخبار المسمومة المضللة، تابع للنظام لا الشعب، وبالتالي يصحّ تسميته «تلفزيون النظام المصري».
ولعلّ موظفي التلفزيون الوطني الذين حوصروا داخله منذ أوّل أمس، يعرفون جيّداً أنهم صمتوا طويلاً عن ممارسات نظام مبارك الفاسد، وبالتالي، من الطبيعي أن يتحوّلوا بدورهم هدفاً لغضب المتظاهرين. وقد استُثني من الإعلاميين هؤلاء الذين تمرّدوا على الفقي قبل ثلاث سنوات، بعد محاولات لإبعادهم عن الشاشة، كي يحلّ مكانهم موظفون خاضعون، حوّلوا «ماسبيرو» مجرّد بوق للنظام. وقتذاك، كان مشروع وزير الإعلام واضحاً: ممنوع فتح ملفات الفساد على الشاشة.
إذاً سقط أنس الفقي رغم أنّه لا يزال وزيراً للإعلام، وسقط معه نظام إعلامي كامل، لكنّ الثورة لم تطاول فقط الفقي، بل كشفت أيضاً حقيقة موقف رئيس «اتحاد الإذاعة والتلفزيون» أسامة الشيخ الذي نفى خبر استقالته الاحتجاجية على أداء «ماسبيرو». والكلام نفسه ينطبق على رئيس «مركز أخبار مصر» عبد اللطيف المناوي.
وقد دفعت الثورة القنوات الخاصة إلى التمرّد على وزير الإعلام، بعدما طلب منها هذا الأخير تقديم بثّ موحّد مع «التلفزيون المصري»، رفض أصحاب هذه المحطات العرض، رغم أنها قدّمت مادة موالية للنظام، لكن السبب كان الخوف على مصالحها، لا مراعاةً لأنس الفقي.
وقد هُزم النظام الإعلامي المصري في معركته مع «الجزيرة»، بعدما حاول في البداية التشويش عليها، ثم سحب اعتماد مراسليها، ثم خالف كل القوانين بمنع بثها عبر «نايل سات»... لكن تضامن عدد من القنوات العربية أبقى «الجزيرة» على الساحة، والتفاف مئات الاعلاميين و«المراسلين» المتطوعين حولها، أعادها إلى الهواء المصري. كل تلك الهزائم لم تجبر أنس الفقي على الاعتذار أو الاستقالة، فرجال مبارك على صورته ومثاله، ينتظرون اطاحتهم بالقوة.
وفي هذه الدوّامة يبدو أشرف زكي الخاسر الأكبر في المعركة الإعلامية التي انطلقت بعد ثورة 25 يناير. نقيب الممثلين الذي أصبح قبل الثورة مساعداً لأنس الفقي، استقال من كل مناصبه دفعة واحدة، بعدما شعر بأن رياح الثورة اقتربت منه. هكذا بعد قيادته للتظاهرات الفنية الداعمة للرئيس حسني مبارك، استقال من وزارة الإعلام، ثمّ من النقابة. ورغم استبعاد المراقبين ما تردّد من كلام عن احتمال اختياره وزيراً للثقافة بديلاً عن جابر عصفور، لولا تنحّي مبارك المفاجئ أمس، فإنّه سيبقى في التاريخ الفنّان المصري الذي ترأس لائحة الفنانين الذين دعموا النظام في معركته الأخيرة أمام الشعب.