وضعت زينة صفير لشريطها الوثائقي الجديد عنوانين: «بيروت عالموس» و «All about my father» (كل شيء عن أبي)، لكن العمل يجمع هاتين العبارتين اللتين تلخّصانه أو تترجمانه. إيلي صفير، والد المخرجة، هو بطل الشريط والشخصية المحورية التي تدور في فلكها الأحداث والشخصيات الأخرى التي تمرّ مروراً عابراً. هو يدور في فلك أسئلة المخرجة اللبنانية: يروي مرة عن حزب «الكتائب»، ومرات عن صالون الحلاق الذي عمل فيه وأداره في فندق «فينيسيا»، ثم يحكي عن بيروت، وعن أبناء العائلات الأرستقراطية الكبيرة حينها، وعن شخصيات حكمت لبنان، وكلها مرت من تحت موسه. يحكي كل حكاية ثم يسأل: «بعد بدك شي؟»، ثم تأخذه المخرجة إلى لقطة ثانية، تستعيد حكايات مرت.إيلي صفير رجل في العقد الثامن، أمضى نحو 70 عاماً من حياته وهو يعمل حلاقاً لسياسيين وأرستقراطيين من لبنان وأمراء عرب، رووا له أسراراً، وشهد حكاياتهم الصغيرة.
كل شيء في هذا الفيلم مطبوع بالحميمية من اللقطات، والكادرات (أحياناً) إلى أمكنة التصوير، وغرف المنزل الأسري، والمطبخ، والشرفة... أب يروي لابنته قصصاً تتخلّلها دوماً كلمة أو يكرّر بعد كل قصة «بعد بدك شي؟» كأننا أمام لعبة كسر الإيهام. فجأة، يعلن الأب أنّ ما مر كان عملية تصوير انتهت. هل ما كان يُقال، هو حكاية؟ أم أن انتماءها إلى الماضي يجعلها أسيرة الذكريات فقط؟ والذكريات مملة لمن يستعيدها أحياناً، متعبة كالتعب الذي تفعله ساعات التصوير الطويلة والأسئلة التي لا تنتهي. كل شيء حميمي، حتى مكان العرض الذي أقيم أول من أمس في «معهد القديس يوسف» في عينطورة (حيث درست زينة، وقرب المنزل الذي تربت فيه)، وقُدِّم في مناسبة عيد ميلاد الأب الرابع والثمانين. عندما تُعاد بعض الحكايات، تُضاف إليها تفاصيل، أو تكون مناسبة لمراجعة الماضي، أكانت مراجعة إرادية أم غير إرادية. لماذا انتمى إيلي مثلاً إلى «الكتائب»، وما رأيه فيها اليوم؟ ثم ينتقل بنا الحلاق، «حكواتي» الفيلم، إلى أحداث 1958 التي تناساها، أو إلى البدايات الأولى للحرب الأهلية، وما قاله له وزير سعودي عن الحرب الآتية. نتنقّل بين قصص لبنان وقصص ذلك الحلاق نفسه، وحبّه لفندق «فينيسيا».
نشاهد عصاميته التي جعلته لا يستسلم للصعوبات. بعد إقفال أو انكسار صالون، كان يفتتح آخر. قد يكون ذلك المشهد الذي خرجت فيه زينة من المنزل إلى «فينيسيا» الأكثر تأثيراً. صور من بيروت تعكسها مرايا الباب الدوار للفندق كأنها انعكاسات لحكايات هربت من إيلي، فلم يقلها، أو حكايات أخرى رواها، ظلت بالنسبة إلى زينة صفير لبّ الموضوع ومحور الفيلم. أما المُشاهد، فستدفعه تلك الحكايات إلى طرح آلاف الأسئلة عن بيروت زمان، عن علاقات حكمت أبناء الطبقات المختلفة، والطوائف المختلفة قبل الحرب الأهلية.