في باكورته «وأنا حبلى أيضاً» (دار النهضة)، يكتب نديم قطيش قصائد خاضعة لانضباط لغوي وتخييلي صارم. الكثافة والاقتضاب هما الممارستان المفضّلتان لدى الشاعر الذي يُحاذر الاستطراد غير المثمر. إنه يستعمل لغة نثرية ومرنة كتلك التي يُكتب بها أغلب شعر الحياة اليومية، لكنها هنا لتخدم في صناعة استعارات تقنع القارئ من دون شروح إضافية.
هناك عناية فائقة مبذولة في إنجاز القصائد إلى حدّ أن الكتابة نفسها تتساوى أحياناً مع العناية بها. تبدو بعض القصائد مدينة للحنكة والتكلّف أكثر مما هي مدينة لكتابة موهوبة يمكن أن تكون مصحوبة بتصدّعات وشقوق تجعلها حقيقية أكثر.
القصد أن الإكثار من الشعر قد يُفسد القصيدة أحياناً، ويحوّلها إلى عرض للمهارات الأسلوبية. لعلنا نبالغ بهذا الاستنتاج، لكنها مبالغة موازية لمبالغة الشاعر في دسّ مكونات شعرية في كل سطر من مجموعته. يحدث أحياناً أن تضيع المهارة والحنكة في النسيج الحي للقصيدة، فلا يعنينا أن نفرِّق بين الصور المنجزة وبين العناية المبذولة فيها، كأن يقول: «ليس شتاءً/ أن تمطر وحسب/ البرد وحده/ لا يصنع غرفة/ الدرب/ لا تصنع غابة/ ولا أصنع شيئاً/ إذْ وحيداً/ أدمعُ/ في حديقة عامة/ لسبب ما/ أرتّق حياتي على مهل/ ولست ماهراً/ بما يكفي/ لأحيكَ غيمة/ واحدة على الأقل». لكن هذا لا يحدث في قصائد أخرى، إذْ تتفوق المهارة على المعنى: «والساحة ساحة/ سرّة عرجاء/ أو ثقبٌ في مؤخرة المدينة»، أو تمنع المعنى من التنفس بحرية وتلقائية: «هذه اليد/ فكرتك عن الرقة/ ظن الأعمى/ أن العالم يتسع لأصابع خمس»، أو تجعل اللغة محلّقة فوقه: «الظنّ أنها المرة الأخيرة/ أنها القبلة الأولى وحسب/ أن الشفاه بعدها محايدة/ والقلبَ/ والكفَّ الحارّة/ والعنقَ المائل بانكسارات الشهوة/ أن الحياة الأكثر في الخفقان/ لا تحتمل أبعد من مساء غجري/ أن اليدين ستنطقان دوماً أقل/ أن كل مصافحة بعد الآن جنازة لعناق/ أننا بلغة خائنة نستأنف/ الصباحات/ والأمسيات/ والمقاهي/ والشوارع/ والأصدقاء/ والفصول/ والعائلة/ أن المرارة في الهواء ليس إلا/ أن الوميض هو النصل/ نربّيه على ضفاف مؤجلة بالكتمان/ أن الخطأ المناسب في المكان المناسب/ لا يتكرر في حياة مرتين». اللهاث اللغوي المنهمر في المقطع السابق لا يوفّر تغطية شعرية للمعاني المتحصلة منه. إنها دلالة ما على أن الشاعر ينجح أكثر في القصائد القصيرة المكتوبة بضربة تخييلية واحدة، كأن يقول: «السفن الراسية/ هدنةٌ مع الريح/ أو سفرٌ في محله»، أو: «أحب الشتاء/ المدينة في عزلتها/ كحذاء أنيق/ في علبة أنيقة/ كالهررة فوق مواليدها». سننتظر حتى نهاية المجموعة كي يتخلّى الشاعر ـــــ باستسهال لا يُحسد عليه ـــــ عن الموهبة والاستعراض معاً. يكتب قصيدة مباشرة عن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وأخرى أكثر مباشرةً عن اغتيال الصحافي سمير قصير. والاثنتان خاليتان من الشعر.