يكتب الشاعر العراقي عبود الجابري القصيدة المسترخية الصافية، المبنية على شكل وحدات متساوية ومتكاملة. يوزعها على محاور ولقطات هي ركائز نصه الشعري، القائم على وحدة نسقية غير قابلة للتشظي بسبب وحدة المضمون وتسلسل البناء اللغوي. في ديوانه «يتوكأ على عماه» (المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر)، وهو الثاني بعد مجموعته الأولى «فهرس الأخطاء»، ينجز الشاعر عشرة نصوص تعمل على توليد البنية عبر لملمة المتناثر من الشظايا أو تشظية الفكرة في مبانٍ عدة للنص يقترحها نص مثل «غيوم ورقية»: «هل المطر دم الغيمة الجريحة؟ وماذا لو لم يلتئم جرحها؟ هل كانت ستمطر حتى الموت» ؟ أو «الغيمة أنثى، ما من أحد يعرف ذكر الغيم».هناك مقاطع قصيرة ضمنَ نصوص مستقلة متفاوتة من حيث الطُّول، وتعتمد تقنية الهايكو. لكن هذه المقاطع تعالج موضوعة واحدة، ويعتمد فيها الشاعر اقتصاداً لغوياً خلصها من الحشو، فجاءت مكثفة ومبنية بطريقة هندسية بحيث يظهر خلل أي نص إذا كانت هناك كلمات زائدة. أمّا في النصوص الطويلة نسبياً، فيلجأ الشاعر إلى الوصف من دون أن يقع في السرد، لكنّ ذلك لا يجنبه السقوط في التكرار.
في مقابل هذه البنية التي تعتمد تجميع الشظايا في نص واحد، يعمد الجابري في أماكن أخرى إلى تشظية النص إلى نتف متشابهة ولقطات لونية موزعة على مساحة النص الشعري بطريقة متناغمة، تجعله متوازناً وذا إيقاع خفي كموسيقى داخلية خفيفة. التكثيف وصفاء اللغة وقصر الجملة الشعرية أوجدت شكلاً أنيقاً لمضامين لا تبتعد كثيراً عن هذه الأناقة، وخصوصاً في النصوص التي تعالج مواضيع الحب والعائلة إضافةً إلى لمحات إيروتيكية خجولة.
المعالجات الأخرى التي تتناول تيمات الغربة والوطن على الرغم من مأساويتها، جاءت هادئة. «هي يدي إذاً تحتفل بموت الدقائق، واخضرار العفن على جدران الساعة القتيلة، هل علي أن أتذكر سلفادور دالي، وأسخر من عفونة الوقت في ساعتي، هل علي أن أقودك إلى حيث نغمض أعيننا، ونشطب النهار من ساعة الجدار، هل علي أن أمحو عاماً كاملاً بنهاره ولياليه، لأستعيد بكارة بغداد؟». وفي موضع آخر: «الغريب يَتَوكَّأ على صُور المدن في الخارطة العتيقة، ويَتعثَّر بمسقطِ رأسه».
في النصف الثاني من المجموعة يأتي «كتاب القمصان»، وهو مجموعة من النصوص القصيرة المكتوبة بتقنية الهايكو، نجد الشاعر يقترب أحياناً من شكل قصيدة النثر الفرنسية وأحياناً يجد صعوبة في التخلّص من إرث الشعر العراقي. في قصيدة «قميص عثمان»، نلاحظ ذلك التكثيف الشديد لقضية كتب عنها مجلدات: «دم يابس يتسلق مئذنة التاريخ، دم يصلح دائماً لابتكار الحروب». وفي قصيدة «قميص العراق»، نجد التكثيف ذاته: «غفرانك... فقد تكاثرت المرايا، واسودت الوجوه».
من المؤكد أنّ الشاعر في مجموعته هذه يعرف وجهته. فالقصائد الطويلة حالها حال القصائد القصيرة، انتظمت في مناخات متشابهة، قريبة من سرد الحياة السريّة. لغة تتسلق السلم البلاغي وتتوقف عنده مخافة أن يضيع المعنى الذي يحرص الشاعر على التمسك به مهما كلف الأمر.