«أم كلثوم هي نهاية عصر فني واجتماعي، وبداية عصر آخر». تختصر هذه العبارة مجمل كتاب جهاد فاضل «أم كلثوم ــــ نغم مصر الجميل» الصادر أخيراً عن «دار الريّس» في بيروت. يعرض الكتاب حياة المطربة الكبيرة (1898 ـــ 1975) التي كانت علاقتها جيّدة بالملك فاروق، قبل أن تتحمّس لـ«ثورة يوليو»، وتعلن حبّها لجمال عبد الناصر.لا يقارب الناقد اللبناني سيرة «كوكب الشرق» بطريقة خطيّة سرديّة، بل بوصفها قيمة فنية واجتماعية وأخلاقية تختصر ما يزيد على نصف قرن من الذاكرة العربيّة المعاصرة، بين أواسط العشرينيات وأواسط السبعينيات. ويتوقّف عند محطات مهمة، أسهمت في إنضاج هويّتها الشخصيّة والفنيّة من جهة، وكانت في الوقت عينه لحظات مفصليّة في تاريخ مصر الحديث. كان الحب في أغنية أم كلثوم ـــ في نظر الكاتب ـــ انعكاساً لتحولات المرحلة. ففي جزء كبير منه، كان حباً مليئاً بالشقاء واللوعة، في مجتمع ذكوري حيث الرجل هو «الأمير» و«المعبود» و«الآمر»، والمرأة هي «الأنثى» و«الجارية» التي تظفر ليرضى عنها. وهذا بحسب رأي جهاد فاضل انعكاس لتقاليد الريف المصري. لكنّها في المقابل، نطقت الحب بلسان الحداثة، بأسلوب جعل أغنياتها العاطفية تبقى حيّة رغم مرور السنين، وجعل منها المطربة العربية الأولى في القرن العشرين. علماً بأن هالتها ما زالت تخيّم إلى اليوم على الذائقة العربيّة...
أراد المؤلف لكتابه أن يكون رحلة خاطفة بعيدة عن التفاصيل المملة، من خلال دراسة نقدية لقيمة أم كلثوم الفنية والاجتماعية والإنسانية. في هذا السياق، خصص فصلاً لكلّ رجل من الرجال الذين ارتبطوا بنحو ما بحياة المطربة... من الشاعر أحمد رامي والصحافي مصطفى أمين، وصولاً إلى الملحن محمد القصبجي.
ويفند الكاتب علاقة «كوكب الشرق» بالشيخ أبو العلا محمد أحد أبرز الملحنين في الربع الأول من القرن العشرين، وأول من التفت إلى صوت أم كلثوم، وعلاقتها بالملحن محمود الشريف والطبيب حسن الحفناوي، ومن بينهم الحبيب والزوج والمعلّم والأستاذ.
يلفت الكتاب إلى أنّ معظم زيجات أم كلثوم لم تكن بدافع الحب، وأنّ العديد من علاقاتها العاطفية لم تخرج إلى العلن، إضافةً إلى إشكالية الحب من طرف واحد التي فرضتها على بعض من حولها من أمثال أحمد رامي. لكن كيف أمكن أن أشعلت هذه المرأة نار الحب في قلوب الملايين، وغنت هذا الكم من المشاعر الجياشة، إن لم تعرف الحب يوماً؟ ليس من السهل أن يغامر باحث عربي هنا بفتح أبواب ممنوعة تفضي إلى مثلية أم كلثوم مثلاً، أو غير ذلك من التأويلات...
ويستعيد الكتاب مصادر متعدّدة تناولت السيرة الكلثومية، مثل أعمال الباحثة رتيبة الحفني، والناقد الفني صميم الشريف، والباحث كمال النجمي والكاتب رجاء النقاش وغيرهم، إضافةً إلى مقالات من صحف ومجلات مختلفة. هنا، يتنبّه إلى أنّ طريقة تعاطي الباحثين المصريين مع حياة أم كلثوم الخاصة، شابها شيء من التقديس. هكذا بقي التطرق إلى حياتها العاطفية من المحرمات، كأنّ التعاطي معها كإنسانة عاديّة، يؤدي إلى كسر هالة قدسيّتها.
من ناحية أخرى، أفرد فاضل مساحة كبيرة لحياة أم كلثوم المهنيّة، وطريقة تعاطيها مع من عملت معهم من شعراء وملحنين، وكيفية انتقائها لأغانيها. يحيل هنا إلى مثال «أراك عصيّ الدمع» لأبو فراس الحمداني، تلك القصيدة التي حرصت على غنائها ثلاث مرات، في مراحل متباعدة من حياتها، وبألحان مختلفة: إذ لحنها أولاً عبده الحامولي (1926)، ثمّ زكريا أحمد منتصف الأربعينيات، فرياض السنباطي (1964). ويلفت فاضل إلى دقة أم كلثوم في اختيار كلمات أغانيها، وخصوصاً تلك التي كانت تنتقيها من التراث العربي، وكيف كانت تتدخل في تعديلها إضافةً إلى مشاركتها الملحنين، كالسنباطي، في بعض التعديلات الموسيقية... كأنّها أضحت مطربة وشاعرة وملحنة في آن واحد.
كتاب «أم كلثوم ــــ نغم مصر الجميل» لا يأتي بجديد، ولا يخلو من بعض التكرار. لكنّ جهد الكاتب ينصبّ على توليف المعلومات في سياق سردي وتحليلي شيّق، من خلال تكثيف المعلومات، وإيراد التفاصيل التي تهمّ القارئ.
يخلص الكتاب إلى أنّ أم كلثوم تفوقت على ابن حزم الأندلسي، إذ وضعت قاموساً جديداً للعاشقين، ذهبت فيه إلى أبعد مما وصل إليه هو في كتابه «طوق الحمامة». غنّت العشق بمرآة مجتمعها بكل تحولاته، فكانت نقطةً جمعت الماضي والحاضر. سواء لمسنا غموضاً في حياتها، أو بعض الأسرار الخفيّة التي دفنت مع أصحابها ممن عاصروها، تبقى هناك حقيقة ثابتة، هي أنّها «نغم مصر الجميل».
صدر للمؤلّف أيضاً، في الوقت نفسه، وعن الناشر نفسه كتاب آخر بعنوان «عبد الوهاب بين التقليد والتجديد»