«على امتداد الدانوب، حتى البحر الأسود»، هو عنوان الدورة الثامنة عشرة من «مهرجان البستان»، التظاهرة السنوية الشتوية المتخصصة بالموسيقى الكلاسيكية بالدرجة الأولى، وبعدها بالأنماط الموسيقية والفنية الأخرى. اتسمت الدورة الماضية بالنكهة الإيطالية، لكنّ الرقعة الجغرافيّة التي يتمحور حولها برنامج «البستان» الغنيّ تتسع هذا العام. ينطلق المهرجان مساء اليوم، ويستمر لغاية 27 آذار (مارس) المقبل، على أن تعبر أمسياته البلدان الـ15 التي يمر بها الدانوب، أو تلك المحيطة بالبحر الأسود.
على الموعد، مؤلفون وعازفون من المنطقة الأعرق في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.
يجب الاعتراف بأنّ هذا المهرجان المتخصّص في الموسيقى الكلاسيكية، لا مثيل له في لبنان ولا في المنطقة العربية عموماً. ذلك أن المهرجانات الأخرى تختلف جوهرياً عن «البستان» لناحية سياسة البرْمجة، وإن جمعتها بعض الجوانب المشتركة مع المهرجان اللبناني الفريد. فالتظاهرات الموسيقية العربية أو اللبنانية الأخرى، تعتمد الأمسيات المحدودة عددياً، وتجعلها تقتصر على الأسماء الكبيرة، فيما يسعى القيّمون على «مهرجان البستان» إلى بناء برنامجهم من خلال البحث الدائم طوال السنة عن مواهب يافعة وتقديمها إلى جمهوره، وذلك قُبَيْل الاعتراف العالمي بها. إذا راجعنا تاريخ المهرجان، نقع على أسماء مرّت من دون ضجة، فيما تصعب دعوتها اليوم إلا ضمن حدث ضخم ووسط هالة اهتمام استثنائية من الإعلام والجمهور.
ولا بدّ من الاعتراف، في المقابل، بأن «البستان» ـــــ شأنه في ذلك شأن معظم المواعيد الخاصة بالموسيقى الكلاسيكية ــــــــ لم يستطع الخروج من دائرة النخبوية. وإذا كنّا نذكّر بذلك، فلفتاً للجهات المعنيّة إلى أهميّة التخطيط لمزيد من التوزّع والانتشار، علماً أن مدناً أوروبيّة مهمّة واجهت وتواجه المشكلة نفسها، ما يدفع الجهات الرسميّة والخاصة إلى وضع سياسات للانفتاح على قطاعات واسعة من الجمهور.
نظرة بانورامية إلى برنامج «مهرجان البستان»، تبيّن أنّه باستثناء المجري فرانز ليسْت والنمساوي غوستاف مالر اللذين يمكن عدّهما ضيفي شرف المهرجان، تسجِّل أعمال الألمانيين بيتهوفن وبرامز الحضور الأقوى هذه السنة، تليها أعمال التشيكي دفورجاك والروسي تشايكوفسكي. ثمة تركيز إضافي طفيف (ومطلوب طبعاً) على «ضيفَي الشرف» المذكورَيْن آنفاً إذ إن 2011 سنتهما في عالم الموسيقى الكلاسيكية (المئوية الثانية لولادة لِيسْت والمئوية الأولى لرحيل مالر).
وإذا استثنينا شذرات من الباروك، وأخرى من القرن العشرين، يتمحوَر البرنامج حول الحقبة الرومنطيقية بالدرجة الأولى، إضافةً إلى ما تلاها وما سبقها مباشرةً. نجمة المهرجان من دون منازع هي أوركسترا دار الأوبرا لمدينة تبليسي (السمفونية الكبيرة والحجرة المصغّرة) التي تشارك في خمس أمسيات، بينها أمسيتا العرض الأوبرالي الذي فاز فيه هذه السنة موزار، مع أوبرا Mitridate.
تكمن نقاط ضعف البرنامج الأساسية في أمسيتَيْ الجاز والموسيقى الشرقية كما في ريسيتال البيانو (بيانو منفرد). في الجاز، يستضيف «البستان» فرقة Trisence الألمانية المغمورة جداً (3 آذار/مارس). وهنا لا نحكم على مستواها مسبقاً (بما أننا لا نعرف عنها شيئاً)، إنما كان من الأفضل ألّا يكون الجاز حاضراً، من أن يتمثل بفرقة من مستوى زميلاتها التي يدعوها «معهد غوته» إلى لبنان، ويدعو الجمهور إلى حضور أمسياتها... مجّاناً! أما الأمسية الشرقية، فحدّث ولا حرج. مع احترامنا لعازف القانون اللبناني جيلبير يمّين (1/3)، لا يجوز أن تتمثل الموسيقى الشرقية بهذا النحو الهزيل، لا سيما أنّ أمسية لآلة واحدة (باستثناء البيانو، أولاً، وبعده آلات أخرى قليلة) تبقى ناقصة وفقيرة، فكيف إذا كانت للقانون؟ حتى العازف المصري الراحل محمد العقّاد ما كان لينجح في هذه المهمة!
وبالنسبة إلى ريسيتال البيانو الذي حرص المهرجان على أن يبقى علامته الفارقة، مع اسم كبير في هذا المجال، فيتشارك فيه عازفان روسيان مغموران، هما إدوارد كونز وإيليا رشكوفسكي (أيضاً في 3/3، أي قبل أمسية الجاز مباشرةً)، فيما تولّى هذه المهمة السنة الماضية العازف العالمي يوندي لي، وفي 2009 العملاق بوريس بيريزوفسكي.
على غير عادة، يغيب هذه السنة العرض الراقص عن «البستان». أما السبب، بحسب رئيسة اللجنة المنظِّمة للمهرجان، ميرنا بستاني فهو تعذُّر دعوة فرقة مرموقة، وعدم رغبة المهرجان في خفض مستواه من هذه الناحية. إنه قرار صائب، وكان يجب أن يطال موعدَي الجاز والموسيقى الشرقية أيضاً.
نعود تباعاً إلى محطات من «البستان» خلال الأسابيع المقبلة. لكن يبقى، إضافة إلى أبرز المواعيد (راجع البرنامج في أسفل الصفحة)، أن نشير إلى رأس حربة المهرجان من حيث الشهرة، الفرنسي غوتييه كابوسون. إنه أحد كبار الجيل الجديد في العزف على التشيلو، ويحضر إلى لبنان من دون أخيه رونيه، عازف الكمان الذي شقّ الطريق لشقيقه الأصغر ويؤلّف معه الثنائي الأشهر في أوروبا اليوم.
الافتتاح مع The Sofia Soloists 8:30 مساء اليوم ــــ «أوديتوريوم إميل بستاني» (بيت مري/ المتن). للاستعلام: 04/972980

www.albustanfestival.com