كان مناه أن يمضي كلّ أيام الثورة في ميدان التحرير، بالقرب من تلامذته. وكان هؤلاء يتّصلون به مرات عدة كل يوم، ويشجعهم «بإيماني بهم». رحنا نتذكّر معاً ما كان يقوله خلال لقائنا أياماً قبل اندلاع الثورة الشعبية. أخبرنا عن دهشته من تحسّن مستوى الطلاب منذ عام 2000، في بلد «لم يعد فيه تعليم»، واقتناعه بأن «الجيل الجديد بنى خبرة بصرية من خلال التفاعل على الإنترنت». اليوم، بعدما تبيّن أنّ هؤلاء الشباب كوّنوا أيضاً خبرة في العمل السياسي، يضحك ويعلّق: «طلع إننا جيل خايب».تجاوز ناجي شاكر الثامنة والسبعين، لكنَّ قلبه ما زال ينبض مع شباب التحرير. الفنّان المصري الذي اشتهر بتصميم عرائس «الليلة الكبيرة»، لمع أيضاً في ميدان ديكور المسرح والسينما والغرافيك. التقيناه في مرسمه في ضاحية قريبة من مصر الجديدة، وولدت بيننا ألفة من دون سابق معرفة. لم يكن يريد إطالة الكلام، محاولاً إقناعنا بالاكتفاء بمطالعة كتالوغ عن مسيرته، إلّا أنّه انساق بعد إلحاح إلى حديث ممتع، أغناه بالكثير من التفاصيل الحيوية.
حكى عن طفولته في حي الزيتون، شمال القاهرة، وعن تأثره بالريف القريب. والده كان موظّفاً لكنه كان مشاركاً في كورال الأوبرا، وأمّه كانت تعزف على العود. تنبّهت إلى أنّ ابنها الضعيفَ التكوين «غاوي ألوان»، وأنه يشغل أيام المرض بتغطية جدران غرفته بالرسوم. جعلته يلتحق بمرسم فنان إيطالي، ولما يكمل الرابعة عشرة. هناك، وجد نفسه وحيداً بين سيدات كبيرات السن، يتدرّب على رسم طبيعة صامتة وموديلات عارية طوال ست سنوات.
لاحقاً، حاول الحصول على منحة دراسة في باريس، شجّعه على طلبها الملحق الثقافي الفرنسي بعدما رأى البورتريه الذي رسمه ـــــ بعد إلحاح من أبيه ـــــ للبطريرك الجديد. لكنه لم يحصل على تلك المنحة، فالتحق بـ«كلية الفنون الجميلة». كان ذلك في عام 1952. «كانت تحرّكنا الرغبة بعالم أفضل». كان المعمار الشهير حسن فتحي (1900 ـــــ 1989) مدرّسه في العمارة، والفنان عبد الهادي الجزّار أستاذه في التصوير... أمّا يحيى حقي ففتح لهم غرفة في «قصر عابدين» كي ينظّموا نادي سينما.
في تلك الفترة، تعرّف ناجي شاكر إلى العرائس من خلال عمل الفنان التشيكي جيري ترينكا. «هذا العالم الساحر» أذهله. اختار العرائس لمشروع تخرّجه، «كنت أوّل من اشتغل على العرائس في الكلية»، يقول. وبعد سنة، صادف أن قرّر مسؤول مؤسسة المسرح الاهتمام بالعرائس: «شعرت بأن حلمي تحقّق». كانت بداية أوبريت «الليلة الكبيرة»، أحد أشهر ما قدم مسرح العرائس في مصر. خلّد العمل تقاليد المولد الشعبي عبر كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي. زاروا موالد عديدة لاستلهام روح هذه التجمّعات الشعبية في عملهم وسهروا في بيت سيّد حتى الصبح. «كانوا يقولوا حاجات قافية، وأنا ما كنتش متعوّد على السهر، عيني بتتغمض وأنا قاعد».
عرضت «الليلة الكبيرة» في بوخارست قبل القاهرة، وحصلت هناك على جائزة تصميم العرائس: «كانوا مستغربين من إبداعي في الشخصية المصرية، وسرعة تخلّصي من تأثير العرائس الشرق ـــــ أوروبية». كانت تلك فترة نجاح وفوَران. لكن بعد نكسة 1967، تراجع اهتمام المؤسسة الرسمية بمسرح العرائس، وكان ناجي شاكر يمر في مرحلة «اكتئاب». لحسن الحظّ، حصل على منحة لدراسة السينما في إيطاليا.
يحكي عن الأفلام «الأندرغراوند» الأميركية، والأفلام الصامتة وحركة «الهيبيز» في عام 1968. فيلم «صيف 70» الذي أخرجه مع باولو إيساجيا في مشروع تخرّجه، يعبّر عن مناخ التمرّد هذا. أمضيا عاماً ونصف عام يبحثان عن تمويل حتى تعرّف ناجي، عن طريق شادي عبد السلام، إلى رينزو روسيليني، ابن المخرج الإيطالي الشهير: «كان بيحب عيال أميركا اللاتينية الثورجية، ليه بيعملوا أفلام سياسية ضد الطغاة». أعجبه مشروع الفيلم، فسمح لهما باستخدام الأستوديو لإنهاء العمل التجريبي القصير... بعد أربعة عقود على إنجازه، اختير الشريط أخيراً، ليضمّ إلى أرشيف «متحف الفن الحديث» في نيويورك.
عندما عاد إلى مصر، شجّعه صلاح جاهين على المشاركة في فيلم «شفيقة ومتولّي»، لكنّها كانت «تجربة مريرة» على رغم لذة مغامرة إقامة استديو في قلب الريف، وتصميم ديكور مولد على مساحة فدّان ونصف فدّان، ومتعة العمل مع سعاد حسني «التي كانت رافضة في البداية» للملابس التي فصّلها لها قبل أن تقتنع بها. تغيير المخرجين ثلاث مرات «رمى مجهود سنوات في الزبالة»، يقول آسفاً. في أعقاب هذه التجربة، قرَّر أنّه لن يقدر على العمل في السينما «في ظروف الإنتاج التجاري»، فاختار تصميم الديكور للمسرح، ثم تصميم الغرافيك، إلى جانب عمله أستاذاً في كلية الفنون الجميلة. صمّم ملصقات لمهرجانات عدّة، إضافةً إلى ملصقات بعض أفلام يوسف شاهين وخالد يوسف.
اليوم يستمتع ناجي شاكر بنجاح «صيف 70» المتأخر. جاء هذا النجاح مصادفةً، عن طريق شباب مخرجين شاهدوا الفيلم بما هم أجيال من السينمائيين كانوا يطرقون بابه لمشاهدته، فتحدّثوا عنه لمنسّقة المتحف النيويوركي. يستعيد ذكريات ليلة التكريم في نيويورك في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والاحتفاء به في «كلية الفنون الجميلة» في كانون الثاني (يناير) الماضي. «كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بالألفة في الكلية». الطلاّب «بيموتوا فيه، وينتظرون دروسه بفارغ الصبر»، تقول هبة حلمي، رسّامة استقالت من عملها مدرّسةً مساعدة بسبب جو العمل المحافظ. «هو أستاذ جامعة كما أُنزل، يعمل حتى الآن كأنّه معيد». أحكي له عن صفحة «فايسبوك» أسّسها المعجبون به. يضحك، ويواصل إطلاعي على مشاريعه: نسخة جديدة من عرائس «الليلة الكبيرة»، وبحث عن فرص لتنفيذ ثلاثة سيناريوهات نائمة في الأدراج. أغادر مكتبه وقد نقل لي فيضاً من حيويته، مشحونةً بطاقة حياة وأمل جديدة.



5 تواريخ

1932
الولادة في حي الزيتون
(القاهرة)

1952
التحق بقسم الديكور في «كلية الفنون الجميلة»

1960
صمم عرائس أوبريت «الليلة الكبيرة» من كلمات صلاح جاهين وألحان سيّد مكاوي

1970
أخرج فيلم «صيف 70» التجريبي الذي اقتناه أخيراً «متحف الفن الحديث» في نيويورك

2011
يعمل على إنجاز نسخة جديدة من عرائس «الليلة الكبيرة»