رحل حسني مبارك بعد ثلاثين عاماً من حكم «أمّ الدنيا»، وبعدما نجح في إفقادها صفتها المحبّبة تلك، خلال سنوات الاستبداد الطويلة. ثلاثون عاماً كاملة، هي عمري وعمر جيل مصري وعربي، لم يعرف خلالها إلا القادة أنفسهم. جيلي من الشباب الذين ولدوا بين أواخر السبعينيات وأواخر الثمانينيات. وإن كان يُمثّل النسبة الأعظم في التركيبة السكانية للأمة العربية الفتية، فإنه جيلٌ حُكم عليه، أن يكون بلا ذاكرة بصرية بالألوان، في ظل غياب لأي لحظة نهوض وإشراق لهذه الأمة المُستكينة حتى أسابيع قليلة مضت.طوال ثلاثة عقود طويلة ومُضنية، بقيت لحظات ألق الأمة تُستحضر من ماضٍ قريب، يبدو موغلاً في البُعد، وبالأبيض والأسود حصراً. كلّ اللحظات التي مهدت لوعود النهوض، وأحلام التحرر، جاءتنا بالصورة القديمة. لكنّها صارت أرشيفاً معزولاً، رحنا نستعين به كلما ضاقت بنا أحوال أمتنا الراهنة. لقطات للثورة العربية الكبرى ودخول الملك فيصل دمشق، انتفاضات شعبية وحراك مدني في العديد من المدن العربية ضد الاحتلالين الإنكليزي والفرنسي، خطابات ناصر الشهيرة لدى تأميم قناة السويس وخطاب تنحّيه... كلّ لحظاتنا المشرقة، رأيناها بالأبيض والأسود. واستمر استحضار الألق «الموثّق»، ليبلغ ذروته مع صور العبور العظيم وبطولات «حرب 73». كأنّ لحظات النهوض انحصرت جميعها في أرشيف بالأبيض والأسود، وبكرات شبه تالفة.
حكاية جيلنا مع ذاكرته البصرية، انطلقت من واقع يزداد انحطاطاً وبؤساً كلّ يوم، تنقله الشاشات بالصور الملوّنة. أولى تلك الصور أتتنا من لبنان، لتؤرخ اقتتال الأخوة الدموي. كنّا أطفالاً نتفرج من دون أن نفهم. مشاهد الدماء والأشلاء تبقى في الذاكرة، ومعها صورة الكبار المُتحلقين حول التلفزيون الفقير بقنواته. وحدها صورة مارادونا وهو يهزم الإمبريالية بمفرده في المكسيك، كانت تجعل الكبار يصرخون فرحاً، وتجعلنا نفرح لفرحهم.
واختتمنا العقد الأول من رحلتنا الثلاثينية بصور غزو الكويت، ونحن نسمع مشادات الكبار وجدلهم أيضاً من دون أن نفهم. مشاهد مبشرة قليلة من الانتفاضة الأولى، لم تلبث أن طُردت من ذاكرتنا، لتُستبدل بأخرى لمباحثات سلام ومصافحات تاريخية، ووحشية إسرائيلية لا تعرف رادعاً، وتخاذل عربي مُطّرد، وصولاً إلى صور الاقتتال الفلسطيني الداخلي.
لم تتوقف الصور الملوّنة عن اقتحام وعينا المُتشكّل، فأتتنا صور غزو العراق بطيف كامل من اللون الأحمر: الدماء تسيل أنهراً، حاملةً صوراً لا حدود لبشاعتها. من دون أن ننسى بالطبع ألبوم الزعماء العرب الذين تحتل صور إنجازاتهم السياسية والاقتصادية العظيمة (وما أكثرها)، الجزء الأكبر من مخزون ذاكرة جيلنا البصرية. ذاكرة سئمت الألوان الباهتة، وتعِبت من استعادة أيام الألق بالأبيض والأسود فقط.
الآن، وبعد ثلاثين عاماً كاملة، تخترق ذاكرتنا البصرية ذات الألوان الباهتة، ألوان زاهية وصارخة، لم نعهدها من قبل. صور ملوّنة بكلّ ألوان قوس القزح، أتتنا أولاً من تونس، وتدفقت من ميدان التحرير، لتفكّ ارتباطنا بالأبيض والأسود. فكما يكتب الشباب في تونس ومصر تاريخ بلدانهم والمنطقة والعالم، فإنهم أيضاً يؤسسون لولادة ذاكرة جديدة لجيل عربي، سيتمكن أخيراً من استبدال أرشيف الأبيض والأسود، بكنز من الصور الراهنة المفعمة بالأمل.
وكما حوّل الشباب في ميدان التحرير بالقاهرة تحفة حسين كمال السينمائية «شيء من الخوف» (1969)، إلى واقع، وأعلنوا على الأرض بطلان زواج فؤادة من المُتجبّر عتريس، قد نشرع جميعاً في التخلّص من أرشيف التعزية الأبيض والأسود والصور الملونة الباهتة، لنستبدلها بصور زاهية، تبدو أقرب إلى وجداننا من أي وقت مضى.

* مسرحي سوري