للجمال مخابئه، كذخيرة مقدّسة يسكن فيها. تضيئه شعلتُه الخالدة، وخيرها يفيض على العابرين. الجمال صنو العجائبيين. فكما يجترح الإيمان المعجزات يجترح الجمالُ المعجزات. كلاهما واحد. وحيث يعجز الإيمان الديني عن الوصول يصل هوى الجمال، فهو أقوى من العلم ومن الجهل، بسحر كيميائه يخلق الحياة من فراغ.■ ■ ■
للجمال طرقه المفاجئة، وفيه مفارقات تصقله أكثر ممّا يصقله التناغم المباشر والصراط المستقيم.
لنعد إلى فيروز والرحبانيين، وهم عمارةٌ واحدة بل بيتٌ واحد. لنأخذ مفهوم الرحبانيين للقوّة والرقّة ثم أداء فيروز للقوّة والرقّة. لدى الرحبانيين إقبالٌ على القوّة، أدباً وتلحيناً، ثابت الأركان متورّد الخدّين. قوّتهما قوّة السنديان الصلب والأرز الوقور وحدّة صفاء سماء الجبل. وعندما يقتضيهما الأمر يصوغان ألحان هذه القوّة بإيقاعات عسكريّة لمّاعة. صوتُ فيروز يؤدّي هذه الألحان وكلماتها التمجيديّة أو التحميسيّة، وكعادتها مع سائر الأغاني، بما يفوق توقّع الملحّن، كما كان يقول عاصي ومنصور، ولكنّها لم تؤدّها طبقاً لتوتّر الكلمة وفحولة اللحن، بل مغلّفة بدفء الحماية وحنان الأمان. الصوتُ أقوى في نعومته من ضخامة الآلات وزخم الألفاظ والروح القائدة الجيّاشة التي وراءها. صوتٌ يحمل البحر كما يحمله الهواء ويغمر الجبل كما يغمره القمر والغيم، ويعيد تشكيل الطبيعة بلمسةِ الملاكِ الحارس.
■ ■ ■
الحبّ في غناء فيروز لا هو العشق ولا هو الشغف، لا غَزَل ولا إغراء، بل هو الشوق. صوتٌ يهدهد ويحنو، وما سطوعه بالعالي أحياناً سوى انفعال الأمّ أو طفلها. صوتٌ بحالةِ تطلُّع إلى غياب، إلى مجهول، صوتٌ يسكنُ نفسه سُكنى شعريّة ويحلّ في السامع حلولاً شعريّاً. لهذا فيروز شاعرة الصوت. يُعتبر رافاييل وميكل أنج شاعري النحت والتصوير، وموزار وبيتهوفن وشوبان شعراء التلحين، وشكسبير شاعر المسرح، وزيفريلّلي أحد شعراء السينما. قوى الفنون جميعاً مشدودة إلى الذروة الشعريّة. لحظة ذروة الفنّ هي الشعر. شاعرة الصوت لأنّ صوت فيروز ذَوْب الشعور في منتهى التحفّظ. معادلةٌ لم يحصل مثلها في غناء. معادلةٌ لم يعلّمها إيّاها أحد، بل هي مخلوقة فيها وشاملة سائر شخصيّتها. انضباط أقصى، حدّ القسوة، على رهافةِ فراشة. تأْرَقُ فيروز قبل حفلتها ليالي بيضاء طويلة من فرط الحرص والتوجُّس، ولحظةَ الافتتاح تقف أمام جمهورها كالنسر. كائنة رواقيّة جبّارة تَدَفّق من حنجرتها أعذب ما نَسَّمَ على الروح. أصعب الكلام غنّته فوصل كالبديهة، والذاكرة الجماعيّة التي تأسّست على صوتها خزانةُ كنوز.
■ ■ ■
نتعجّب كيف هذا الإنسان هو، في هذا العمل، إله! لو ندري كم تَعذّب الخلّاق، الموهوب، الفنّان، هذه الازدواجيّة! هو أوّل ضحاياها. لا يُحسَد ذو الطبيعتين على ألوهيّته، فهو فريستها.
■ ■ ■
الغناء، بالإضافة إلى كونه فنّاً، هو أيضاً فكرة تضاف إلى «فكرتَي» الكلام واللحن، وتطغى عليهما في الكثير من الأحيان. هذا الصوت ليس مناخاً وحالةً فحسب، بل هو بالفعل فكرة. يؤدّي لسواه فإذا هو يغنّي ذاته. يحوّل قصيدة الشاعر ولحن الموسيقار إلى قصيدته ولحنه. تخرج الأغنية من صوت فيروز وقد تحوّلت إلى صياغة فيروزيّة. لا نقصد التقليل من دور التأليف فهو ضخم وطاغٍ، المقصود هو أن طغيان التأليف سلّم عمله إلى الصوت مطمئنّاً إلى إخلاص أدائه، وإذا بالصوت يطبّع العمل بمناخه ويخضعه لطغيان أكبر. وتحقّقت سعادة الجميع بهذه التحوّلات. كان الأخوان يغتاظان مرّات حين يقال باعجاب: «صوت فيروز! صوت فيروز!». ويسوؤهما أن يُعلى على أعمالهما، وفي آخر الليل كان عاصي يفرك يديه فرحاً بتألّق فيروز، ولو أنّ شيئاً من هذا السجال لم يكن يصل إلى أذن المطربة.
■ ■ ■
فيروز صوتٌ يخترقُ دروعَ اللامبالاة، يبكّت ضميرَ الهزء، يطهّر النفس كما يطهّرها البكاء لا العقاب، محبّةُ الطفل لا مهادنة العدوّ. هذه السلطة الأخلاقيّة ليس مثلها لفلسفة ولا لتعليم. ربّما مثلها في شواهد خارقة. لا تُحبّ فيروز أن يُقال عنها «أسطورة» أو «أيقونة». كان عاصي يلقّبها بـ«البطرك» إشارة إلى المهابة ولم تضحك لهذه المداعبة. تكره التحنيط. تكره المصطلحات. تريد أن تتأكّد من حيويّة فنّها كلّ لحظة. عندما تسمع أغانيها الأولى تبتسم بتأثّر قائلة «يا الله هديك البنت!». تتعجّب لها، كما لو أنّها مغنّية أخرى. تجتاز أعمارها باضطرام وهدوء معاً، كما لو أنّها وُلدت الآن. لكنّها في الواقع غداً ستولد. الحفلة المقبلة هي الأولى. تحبّ ماضيها الفنّي ولا تتجمّد عنده. لا يوقف حلمها شيء. حلمٌ مُطْلَق. حلم بمَ؟ توقٌ إلى مَ؟ «أنا عندي حنين/ ما بعرف لمين». والجميل، المؤلم الجميل، أنْ لا تَعْرف. كل يوم ينبثق الفجر ويكتفي الزمن بدورته الرتيبة، إلّا فجر الفنّان، أمسه غير يومه ويومه غير غده. هذا المجهول هو الحبيب. هذا الخيال هو الذي يهفو إليه الشوق. هذا الجزء هو المبحوث عنه دون كَلَل. الجزء الناقص للكمال، فقط هذا، فقط بعدُ هذا، هذا هو! بلى، هو! وجدتُه! وجدتُه!
«كأنّها» وَجَدَتْهُ. لم يكن إلّا دَرَجة أخرى في السلّم. طيّبة هذه اللحظة، شكراً للّه! شكراً أيّها اللحن، أيّها الشعر، أيّها الجمهور الحبيب! شكراً يا ربّي على نجاحي! على صوتي! على أصدقائي! يا إلهي ما أكرمك! ولكنْ، ولكنْ، لمَ أقفرت الصالة بعد الحفلة؟ أين راحوا؟ «متل الحلم راحوا». وأنا أرجع الآن إلى العزلة، الانتظار، التحرُّق على هذا اللعين الذي لا يزال ناقصاً! هَبْني يا ربّ فرصةً جديدة علّني أجده فأرتاح! أرتاح! يا إلهي!...
ولن تَجِديه يا فيروز. حُلمكِ يحفرُ فيكِ كما يحفر النهرُ العظيم في الأرض. رُوحُكِ عَطّشها اللّه لتظلّ تضيء شموعَها الرائعة على طريق الرجاء.
نهرٌ هادرٌ وعطشان: هذا هو عذابُ الموهبة.
■ ■ ■
يكمن عَصَب الجمال في الجاذب الذي يشدّنا إليه، جاذبٌ يستمدّ طاقته من غموضه. هذه اللوحة ليست هويّتها الملموسة ما يذهلنا بل التيّار الذي يسري فجأةً بيننا وبينها. الصوتُ ليس هو الصوت ولا ما يقوله بل العلاقة التي ننسجها معه في غفلة من إدراكنا نحن الطرفين، علاقة تمليها علينا كهرباءُ ساطية، مبهمة، تنهار لها الحواجز. ليس بكبير على السحر.
■ ■ ■
حظّ الإنسان عظيمٌ أن يكون سرّ الجمال أشدّ انغلاقاً عليه من سرّ الحياة.
في الكلام على فيروز ألف شهرزاد. لا ينتهي. وهل ينتهي الذهول أمام الأسرار؟ بعض سرّها التقاء الطموح والقناعة، والحذر والطفولة، والغموض والشفافية، والشمس والقمر. سرّ انصهار اللغز والبساطة. سرّ كلّي محصَّن مُغْلَق كنظام متراصّ، لا نافذةَ له على العالم إلّا الفنّ. كلّ الفنّانين يعيشون حياتهم إلى جانب عملهم الفنيّ إلّا فيروز: حياتها هي فنّها، تتنسّك له أكثر من الرهبان وتتحمّل في سبيله أكثر ممّا يتحمّل القدّيسون. لقد خطفها صوتُها إليه قبل أن يخطفنا صوتُها.



لا تَسَلْ

على هامش الانتفاضات العربيّة: التقاءُ مصالح الولايات المتّحدة وإيران ليس الأوّل من نوعه. يلتقي الأعداء في المنطلقات والوسائل ولو اختلفوا في الغايات. لا لأن الأعداء متحالفون سرّاً بل لأن المنطلقات والوسائل محدودة ولا بدّ أن تتشابه. في مطلع الحرب العالميّة الثانية تلاقت مصالح ألمانيا النازيّة مع مصالح الاتحاد السوفياتي الشيوعي ضد «الغرب الديموقراطي»، حدّ عَقْد معاهدة عدم اعتداء. في لبنان شاهدنا تلاقياً موضوعيّاً أكثر من مرّة لمصالح سوريا وإسرائيل تارةً وإسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة طوراً. وظنَّ العربُ والإيرانيون أن إسقاط أميركا لنظام صدّام حسين يخدم مصالحهم، فتبيّن أنه لم يخدم إلّا إسرائيل. الدولُ تلعبُ بالجغرافيا، والتاريخ يلعب بالدول.
مَن يُحرّك الانتفاضات؟ عدوى البوعزيزي، يقول الأوادم. لماذا الآن وليس قبل ربع قرن، نصف قرن؟ شريعة التطوّر، يقول الأوادم. مَن التالي؟ أيّاً يكن، يقول الأوادم. ما سرّ الحيرة بعد الثورة؟ أَنَّ العرب لم يتعوّدوا إلّا الانقلابات العسكريّة: يُطلّ الضابط فيركن الشعب إلى سطوة الدكتاتور الجديد.
هامشٌ آخر: كشفت لنا التلفزيونات نخبةً من الأدمغة الليبيّة يفتخر بهم كلّ العرب. جنونُ القذّافي طمس ليبيا نصف عصر. هكذا حال الحكّام في العالم كلّه: مواطنوهم أفضل منهم.
هامش أخير: زمنُ «الأبطال» إلى انقراض. زمن «الشخصيّات». أفضل؟ أحياناً أجل، عندما ينفضح «الأبطال»، أو تنوء الشعوب بالحمْل. الشعوبُ كالمصلّين تحتاج إلى فترات تنفُّس بين الركعة والركعة. خاصةً أنّ أحداً، غير مرضى الحنين إلى الماضي أيّاً كان، لن يأسف على زعماء كالقذّافي.
لا تَسَلْ عن الغد. الواضحُ الوحيد فيه أنّ انتخابات الرئاسة الأميركيّة مقرّرة بعد عام. لا تسَل عن البشر، حَسْبُكَ أخبارُ الآلهة.