أسوأ ما أحدثته السلطة بتعاملها الخالي من الرؤية الثقافية مع الاحتجاجات، أنّها أفشلت مشروعاً متّزناً عمل عليه معتدلون في أوساط الشيعة كأفراد أو منتمين إلى جمعيات، بغية تغيير مقاربة الشيعة للتاريخ والوطن، وإخراجهم من غيتو التاريخ إلى منصّة العصر. وبغية تعزيز فكرة المناداة بدولة مدنية، وإن لم يكن بالمفاهيم المدنية الكاملة بل بما شكّل تحولاً ذا دلالة. يكفي أن نشير إلى ما رافق ربيع الدوار من تسامح وغض طرف عن مظاهر كانت تعدّ من الممنوعات في مقاييس التشدد، كالموسيقى والاختلاط.
وهذا المشروع ربما نجح فيه هؤلاء إلى حد كبير. ظهر شعار الدولة المدنية واستبعاد دولة الفقيه للمرة الأولى في التاريخ على لسان شيوخ المعارضة الإسلامية، الشيعية الاتجاه، وهي تنادي بالتعايش مع أسرة حاكمة، محدودة الصلاحيات التنفيذية... على أن توكل تلك الصلاحيّات إلى حكومة منتخبة.
لقد عوملت هذه الحركة بسوء فهم مذهل وغريب، ليس فقط من الحكم بل من بعض الليبراليين. وكانت هي من جهة تكرر «سلميّة»، وهم يقولون «بل إرهابيّة». وتكرر «مدنيّة» فيردّون «بل تريدونها دينيّة»، وتكرر «عروبيّة» فيقولون «بل فارسيّة»، في غفلة حتى عن أبسط التحولات التي جعلت الشباب يقودون العمامة لا العكس. كان بإمكان هؤلاء المنتقدين منح الفرصة للتأكد ما إذا كان طرحاً كهذا هو حقاً جدير بالمغامرة الوطنية في سبيله. لكن المنتقدين آثروا الكسل الذهني، والركون إلى نظرتهم للحركة الدينية التي لم تتجاوز نهاية السبعينيات مع انتصار الثورة الإيرانية. ولعل التاريخ لم يسجّل يوماً غباءً في قراءة لحظة مفصليّة معيّنة، كذلك الذي شهدناه في الأيّام الأخيرة من خصوم هذا الحراك، أو الواقفين على هامشه.
لعلّ كل هذا التوجه الصحي الذي راهن عليه مستنيرو البحرين، لمشروع دولة مدنية غير ثيوقراطية، أصبح اليوم في مهب الريح. ولا مناص ريثما ينجلي غبار الدوار عن قاتل وقتيل، من النكوص وعودة الجماعة الشيعية للمرة الألف إلى الغيتو. وستعود، لدى كثيرين من أفرادها، تلك القناعة الخطيرة بأن لا دولة عادلة ممكنة غير دولة الغيب التي علينا إما انتظارها لتأتي مع المهدي حسب أنصار الانتظار، أو الثورة من أجلها حسب أنصار الثورة. وكلاهما مشروعان طوباويان يهلك في سبيلهما البلاد والعباد. وربما يندم المنتقدون يوماً، حيث لا يفيد الندم إن تحطمت هذه النافذة المفتوحة على العصر.
مرة أخرى، يثبت التاريخ أنّك ما لم تقرأه قراءةً ثقافية أيضاً، وليس سياسية فقط، فأنت معرّض لارتكاب أخطاء ـــــ بل خطايا ـــــ لن تغتفر. إن بكيتم إذاً فلا تبكوا اللؤلؤيين، بل ابكوا أنفسكم التي أضعتموها إذ خذلتموهم.
(البحرين)