عشت في البحرين عاماً ونصف عام. وعندما عدت من تجربة عمل لا تزال مرارتها في حلقي، تمنيت لو أنجزتُ كتاباً بعنوان «النوم في المنامة». الفكرة المركزية في كتابي كانت تنطوي على استعلاء مصدره انتمائي إلى بلد كبير ومركزي في محيطه، يجهل سكانه كل ما هو خارجه. أظن أنّ الثورات العربية أيضاً مناسبة لتصحيح الصور النمطية. فكما كتبت صديقة على فايسبوك، كانت الغالبية تظنّ أن كل الليبيين نسخ متكررة عن القذافي، وأن الخليجيين مرتادو حانات وهواة استهلاك.قبل العيش في البحرين، كانت فكرتي عنها «استشراقية» أيضاً، تضع كل ما لا تفهمه في نطاق «الغرائبي». ومن الأمور التي لم أفهمها مسألة الطائفية. وزاد من عدم الفهم أنّ الصحيفة التي عملت فيها بدعوة من ناقد ما بعد حداثي، كانت تعبّر عن التيار السلفي السني. ولم تكن تلك المفارقة الوحيدة، لأنّ أغلب العاملين في الصحيفة من الشيعة. وهي مفارقة تمثل انعكاساً طبيعياً لمعادلة تسم المجتمع كله. وكان هؤلاء يعبّرون لي يومياً عن غضبهم من عناوين الصحيفة، وأسلوب معالجتها للأحداث. مع ذلك، كانوا يعملون في «غضب مكتوم»، وبعضهم نظر الى المصريين في الصحيفة كباحثين عن فرص للتجنيس السياسي.
الجريدة كلها ــــ كما عرفت لاحقاً ــــ لم تكن إلا خطوة في مشروع يدير ملفّه أحد الوزراء الذين ضُحّي بهم خلال الثورة الأخيرة، بغرض إعادة هندسة المجتمع البحريني. ولفترة، ظلّت البحرين في نظري مجرد بلد صغير، من السهل قراءة مفرداته. لكن الطائفية كانت دوماً خارج قدرتي على الإدراك. حتى بعدما قرأت كتباً توفّر لي مفاتيح لإدراك قانون «العيش المشترك» في بلد أحببته من قلبي.
بقي في قلبي من البحرين الأثر الذي منحه لي نصّ قاسم حداد «ورشة الأمل». ولم يكن غير وصفة لاستعادة ماض كان يقوم على التسامح. ومكّنني عملنا المشترك في كتاب «فتنة السؤال» من إدراك تناقضات هذا الخطاب. في الكتاب، سألت قاسم كثيراً عن «المصادفات الطائفية» التي كان يجري إعادة إنتاجها أحياناً بوهم أيديولوجي متعدد الوسائط. وردّ قائلاً: «طوال تاريخه، كان المجتمع البحريني قادراً على طرد أي محاولة داخلية أو خارجية لإنعاش الطائفية أو استغلالها بسبب طبيعته الحضارية». لم يكن ما يقوله قاسم «كليشيه» لأن الحياة اليومية مع زملاء من الطائفتين قدمت لي ما يؤكد صدق الإجابة.
ظل سؤالي لقاسم معلقاً وهو: هل نستطيع أن نقبل حقيقة التعدد والتنوع في البوتقة الاجتماعية الواحدة بجرأة وشجاعة ولمرة واحدة جذرية؟ أظن أنّ انتفاضة دوار اللؤلؤة، وقسوة تعاطي السلطة البحرينية معها، تقدمان بعض عناصر الإجابة. السلطة لم تجد حلاً غير إزالة الرمز، كأن المشكلة تكمن في المبنى، لا في المعنى الذي جسّده.
أتذكر الآن أنّ ميدان اللؤلؤة أول مكان عرفته في البحرين، بعدما دلّني عليه زملاء العمل. كنت أبحث عن سوق لتوفير احتياجاتي وأنا أعمل على تأسيس سكن. وتدريجاً، صار المكان مقاماً، لا يمر أسبوع من دون التجوّل في «المول الصغير» الذي يجاوره. كان تناول فنجان القهوة في «كوستا» طقساً اعتدته، كما اعتدت مرافقة قاسم حداد وهو يشتري السمك من سوق المنامة الواقع في قلب الدوار.
يهيأ لي الآن أنّ الثوار الذين اختاروا الدوار رمزاً لثورتهم، كانوا أيضاً يبحثون عن معنى «السكن» وينظرون إليه كورشة أخرى للأمل، غير تلك التي تركها قاسم في المحرّق. رأيت الثوار على الشاشات كأنما يمسكون بلائحة مطالب كتلك التي كانت تأتي بي الى السوق. وأقول ربما اختاروا هذا المكان لأنّ السوق بمعنى ما «فضاء» لمحو التمايز الطائفي، وساحة لتفاعل لا شرط فيه غير الإنسانية.
صحيح أن النصب الذي كان قائماً في الميدان لم يكن من العلامات المعمارية التي أحبها في المنامة، إلا أنّ «البلدوزر» الذي هدمه، اجتثّ من قلبي صوراً ولحظات سعادة حقيقية. لعل آخر تلك اللحظات ابتسامة صديق عرفته في الليلة الأخيرة التي قضيتها قبل مغادرة البلد. صديقي اسمه حسام أبو صيبع، وهو منشغل بالتاريخ، وفي قلبه شغف يعلّمني كلما كتبت إليه أنّ السلطة تفكر دوماً بعقلية هدم، فيما يسعى الثوار دوماً الى البناء.