حين وقف نزيه أبو عفش قبل أيّام قليلة على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، ليقرأ «يوميات الغضب» المكتوبة على وقع الثورات العربية المتسارعة، كان شيء من تلك الثورات، قد بدأ للتوّ في سوريا. اعتذر الشاعر السوري المتفرِّد النبرة لأن غضبه تحوّل إحباطاً مع النسخة الليبية للثورة، وكان بالإمكان لمس حَيرته وخَشيته رغم أن اليوميات لم تبدأ بعد بمقاربة الأحداث في بلاده. ما سمعناه ـــــ على أية حال ـــــ لم يكن يوميات تقليدية تؤرِّخ بالكلمات ما تنقله الشاشات بالصور.
الطاقة الواقعية الهائلة في اليوميات لم تمنع صاحب «إنجيل الأعمى» من إنجازها بنبرته الشعرية ذاتها. هكذا، استأنف الشاعر تأليف انكسارات الكائن البشري، مجدِّداً انحيازه إلى قلة حيلة هذا الكائن أمام صناعة الموت التي يُجيدها الطغاة والقتلة.
لم يقرأ أبو عفش شعراً، لكن الـ «يوميات» لم تنجُ من استعاراته السوداوية التي برع في إدهاشنا بها طوال تجربته الشعرية. كأن الأمسية كانت مناسبة لتحديث النذور التي قطعها صاحب «بين هلاكين» للكتابة والعيش، ومناسبة لنا كي نعاين شاعراً ظل «يواسي نفسه في جنازة نفسه»، لكنه يحلم اليوم بأن تأتي على أحفاده أيام غير التي عاشها.
أصدر أبو عفش باكورته «الوجه الذي لا يغيب» سنة 1968. لقد أدرك شعراء الستينيات، ولامس تجارب السبعينيات. الشاعر الذي حظي بإجماع الطرفين، مال سريعاً إلى الطرف الثاني، متخلياً عن الإيقاعية العالية والتهويمات البلاغية لصالح لغة تتألف من الكلام اليومي، وتطارد نثريات الحياة ومهملاتها. ميلٌ كتَّبه قصيدة النثر التي شاعت أكثر لدى لاحقيه، ولا يزال ديوانه «أيها الزمان الضيق أيتها الأرض الواسعة» (1978) أيقونة من أيقونات ما سمّاه النقّاد «قصيدة شفوية» أو «قصيدة الإنسان الصغير».
الإنسان الصغير، مصروخاً في وجهه، مهدداً ومرعوباً، حاضرٌ في معظم أعمال الشاعر الذي راح يتماثل مع شخص قصيدته. مع تراكم التجربة، تحولت العذابات البشرية إلى نوع من الفن الشخصي. نعى الشاعر حياتنا التي نواصلها على مضض، وهدهد أحلامنا التي تتحول إلى كوابيس. كتب «عن الخوف والتماثيل» (1970). قال لنا «تعالوا نعرِّف هذا اليأس» (1980)... و«بين هلاكين» (1982)، همس لنفسه: «الله قريبٌ من قلبي» (1980). ثم فلسف كل ذلك بعنوان «هكذا أتيت هكذا أمضي» (1989). عناوين بمذاقات حارة ومُعدية لدواوين ضمت قصائد ونصوصاً كرّست عزلة الكائن وتوقه إلى الحرية، هشاشته ومقاومته، يأسه المقيم وآماله المقتولة.
لم تبتعد اليوميات التي قرأها أبو عفش في أمسيته البيروتية عن مناخات شعره. إنها قصائده ذاتها وقد تخفّفت من صرامة المعايير الشعرية، وبات الشاعر فيها حراً أكثر في رثاء العالم وازدراء حروبه. إنها يوميات مدينةٌ للحراك غير المنتظر الذي هز الواقع العربي أخيراً. يوميات تلاقي غضب الشارع بغضب الكتابة. كأن قصيدة «كم من البلاد أيتها الحرية» التي طبعها الشاعر في كرّاس صغير أواخر الثمانينات، وجدت جوابها أخيراً بفضل الحناجر التي هتفت في ساحات تونس ومصر بسقوط الأنظمة المسؤولة عن إنتاج مواطنين خائفين يشبهون كائنات الشاعر الغارقة في الأسى والألم.
هكذا، هجا الشاعر «شعراء النقاء الخالص» من دون أن يتماهى كلياً مع دعوة «أيها الشعراء... اكتبوا شعراً رديئاً» التي أطلقها الشاعر الراحل ممدوح عدوان أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. الحماسة، إن وجدت، خافتة ومدفونة في طيات اليوميات القائمة على مهارات وتدابير تكاد تكون نسخة معدلة عن المهارات التي آنست ذائقتنا في دواوين الشاعر، الذي نجح في الجمع بين جودة الشعر وجمال تمريغه في وحل الحياة. بالنسبة إليه، لا تزال وظيفة الشعر «أن يجعلنا تعساء بشكل أفضل». لا يزال تطيّر الشاعر موجوداً، ولا تزال حساسيته المعجمية على حالها.
هذا ما يتناهى إلينا في قوله: «لا يكفّون عن النحيب على ما تبدّد/ انتهت الحياة/ ولم يُتحْ لأحد/ ما يكفي من الوقت/ للتمرُّن على ضحكة». في اليوميات، كما في القصائد، يُبغض الشاعر المنتصرين ويقف إلى جانب الضعفاء. نقرأ حواراً غير متكافئ بين الشعوب والطغاة، بين القتلة والضحايا. «ولكن سامحني/ تحت قميصي قلب/ وتحت قميصكَ مسدس»، كتب صاحب «أهل التابوت» في إحدى قصائده، وها هو يضع المعنى داخل إطار أوسع: «بلادنا الكافرة/ بلادنا اللئيمة/ لكي تُحسن تأديبنا/ لا تفعل شيئاً/ غير أن تنصِّب علينا حثالات مُشركيها/ ليعلِّمونا أصول الإيمان».
في دردشة تلت الأمسية، أبدى أبو عفش فرحه المصحوب بالقلق مما يحدث في بلده: «إذا نجونا من النسخة الليبية، وكانت استجابة السلطة للإصلاح حقيقية، فأنا مطمئن إلى أن تغيرات جوهرية ستحصل في سوريا. بالنسبة إلي، لا أقبل التفريط بأي قطرة دم مهما كانت القضية. ليس مقبولاً أن يموت الناس لأنهم طالبوا بالقليل من الحرية. المواطن الحرّ وغير الخائف هو ذخيرة لأي نظام، وما يحدث اليوم فرصة كي يتصالح النظام مع شعبه. ما وُعدنا به من تغيير وإصلاحات كان ينبغي أن يحدث منذ عام ألفين».
الشاعر الذي ربّى جملته في كنف الألم واليأس، وشهد تماوت أحلام جيله، يأمل مستقبلاً مختلفاً للأجيال الجديدة: «حرامٌ أن نورّث ما عشناه لأبنائنا. لا أريد لأحد أن يستنسخ يأسي وخوفي وانعدام طمأنينتي». الوضوح الجارح في الدردشة الشفوية، سيصلنا عائماً في يوميات جديدة بدأ الشاعر بكتابتها في بلدته مرمريتا، حيث يعيش عزلته الاختيارية. في واحدة بعنوان «نحاول ونخفق»، نجد ترجمة مرموقة وآسرة للمشهد الراهن: «لم أكن عدوّكَ حين قلتُ لك:/ نحن شريكان في الهواء والدمعة ولقمة الأرض/ ولا كنتَ عدوّي حين حشرْتني في عتمة الخائف/ وحشرْتَ نفسك في عناد المنتصر/ كنا، كلٌّ حسب كتاب يأسه/ وكلٌّ حسب ديانة عزلته/ نحاول العيش/ وكنا مخفقين/ الآن، أنا عدوّكَ لأنني/ إذْ لم أعرف كيف أكون ضعيفاً/ أوقعتكَ في محنة قوَّتكْ/ وأنت عدوّي لأنك/ إذْ بالغتَ في إيلامي/ جعلتني راغباً في إماتتكْ/ ها نحن مرةً أخرى نحاول العيش/ ها نحن مرة أخرى/ نحاولُ ونخفق».
في المقابل، تترافق آمال أبو عفش بالتغيير مع الخوف من بعض المطالبين به أو الداعمين له، ويؤكد أن «من حقنا ألا نبالغ كثيراً في الأمل. من حقنا ألا نصدّق وعود القادمين لإنقاذنا. أحياناً يكون أعداءُ أعدائك أشدّ خطورةً وازدراءً للحق والعدالة»، مبرراً ذلك بأن «معظم من يزعمون أنهم دعاة ديموقراطية وعدالة (في الداخل أو على مستوى الأرض كلها) ليسوا دائماً معنيين بالحرية أو العدالة. إنهم في الغالب يطالبون بنصيبهم من الميراث. الديموقراطية، من وجهة نظرهم، هي حقهم في أن يكونوا طغاة المستقبل». كان نزيه أبو عفش يائس دوماً، لكننا لم نملك إلا أن نبجل يأسه الأصيل. وعلينا أن نفعل ذلك اليوم حين يقول: «حيثما رأيت أميركا تصفق أو تدعم أو تحرّض، فهذا يعني أنّ على الناس أن يضعوا أيديهم على قلوبهم ويبحثوا عن ملجأ. نعم أنا متطرف في هذا. ويمكنني القول بكل بساطة: غداً، لو جاء الوقت الذي تتدخل فيه أميركا (الغرب الرأسمالي عموماً) لنصرة كارل ماركس ويسوع المسيح وأمي، ساعتها سأقف إلى جانب الشيطان وأكفر بالماركسية والحق والعدالة... وأمي».



يوميات... وديوانان

منذ أن بدأ أبو عفش بكتابة اليوميات، وهو لا يعرف متى سيتوقف عن كتابتها. كأن الشاعر عثر على نبرة أخرى لترجمة حبه للحياة ومشقة اطمئنانه إليها أيضاً. يقول إنه يفكر كل يوم في أنه تعب ولا بد من التوقف، لكنه يستيقظ كل صباح ليجد ما ينبغي أن يُكتب. إلى جانب اليوميات التي سيدفعها إلى النشر بعنوان «دمع اليمام»، يُنتظر أن يصدر له قريباً ديوانا «الراعي الهمجي»، و«برج الثعبان».