كتاب ناصيف نصّار «الإشارات والمسالك من إيوان ابن رشد إلى رحاب العلمانية» (دار الطليعة)، عبارة عن دراسات متقطعة زمنياً. لكن صاحب «طريق الاستقلال الفلسفي»، نجح في التوليف بين أفكاره لتنتظم في سياق متكامل. نصار المنتمي إلى سرب العقلانيين العرب، قدّم طروحات جامعة لهمّ معرفي واحد، قوامه التأسيس لزمن النهضة العربية الثانية. بدءاً من السطر الأول، يستفزّ نصّار عقل القارئ بالمعنى الديكارتي. بلغة علمية، عمل على تحليل نصوص ابن رشد وابن خلدون والفلسفات الحديثة، وتحرى عنها عبر منهجية التفكيك والبناء، ما مهد الطريق لإشكاليات جديدة.
يمنعك الكاتب من التقاط أنفاسك. من كشف إلى كشف، يرسم معاقلة تفاكرية، استهلها بالنص الرشدي، واضعاً إياه تحت تساؤل أساسي: «كيف تعاطى ابن رشد الفلسفة؟». يقرأ الدكتور نصّار الفلسفة الرشدية، المتأسسة على العلاقات التبادلية بين الفلسفة والشريعة. وجد ابن رشد ـــ داعية المواءمة بين العقل والنقل ـــ ضالته في نظرية التأويل الذي يعني «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية»، كما يلفت المؤلف.
لا يعمل على هذا الحقل سوى الفلاسفة أو «أهل البرهان»، فهم وحدهم يمتلكون الصلاحية. ما يعني أن صاحب «تهافت التهافت»، يحصر «تأويل الشرع» بالنخبة، ما دفع الباحث الفرنسي دومينيك أورفوا إلى القول «إن النخبوية تخفي في الواقع تقديساً حقيقياً للفلاسفة» ومرة أخرى، يعود بنا المفكّر اللبناني إلى سؤال قد يقع وقع الصدمة على المعجبين بابن رشد: «هل يمكن اعتبار فكر ابن رشد راهناً؟»، ويجيب بلسان المفكّر الفرنسي آلان دوليبيرا: «كان ابن رشد راهنياً جداً في القرون الوسطى اللاتينية»، وهو «بحق من آباء أوروبا الروحيين». هذا على مستوى العالم الغربي، فماذا عن راهنيته إسلامياً؟ بعد استشهاده بعالم الإسلاميات الفرنسي الراحل روجيه أرنالديز القائل بأنموذجية ابن رشد للمسلمين في هذا العصر، يفاجئنا نصّار بالسؤال الآتي: هل تخطى الزمن حقاً نظريته في العلاقات بين الدين والفلسفة؟ أليس من الأجدى توظيف العقلانية الرشدية لحل مشكلات الحداثة عندنا؟ ويخلص إلى أن النظرية الرشدية لا تفي إلا قليلاً من متطلبات عصرنا الفكرية.
ويصل نصّار إلى البحث عن فكرة الحداثة في نصّ ابن خلدون، ولفظة الحداثة غائبة تماماً عن نصه. هكذا يحدد جملة من المعايير للإجابة عن إشكاليته، أولها الرؤية الخلدونية حول التبدل في التاريخ، يليها الوعي التاريخي المتحقق من طريق علم العمران، وقياس الماضي على الحاضر، والحاضر على الماضي، وموضعة الفكر السياسي من منطلق العمران والتاريخ، أي تفسيره تحت راية الواقعية السوسيولوجية. حتى نظرية الخلافة بعد وفاة الرسول أخضعها صاحب «المقدمة» «لتركيبة الاجتماع السياسي المحكوم بتركيبة العمران البدوي»، ما أدّى إلى نشوء «الخلافة بصلة العصبية القرشية الغالبة».
لكن ماذا عن المبايعة ودور الفقهاء فيها، ومؤثرات الآداب السلطانية؟ وهل من تعارض بين الشورى والبيعة التي كرست توريث السلطة؟ الحداثة التي يلاحقها نصّار في النص الخلدوني لا ترتبط بالمفهوم الغربي، بل بالسياسة العقلية القائمة على فلسفة الحق السياسي، لا على فلسفة المُلك.
وتحت عنوان «التواصل الفلسفي والمجال التداولي»، يتصدى المؤلّف لمقولة صراع الحضارات، ليس عبر مقارعة الأدبيات السياسية التي صاغها صموئيل هنتنغتون وسواه، بل من زاوية فلسفية تبدأ بتعريف التواصل بوصفه تلاقياً مع الآخر. ماذا عن تواصل الفيلسوف العربي داخل مجاله التداولي؟ يرى نصّار أن خلاصات ابن رشد والفارابي مهمة في الأزمنة الراهنة، لكنها لا تقدم إجابةً عن المتعلقات الديموقراطية والمواطنَة في العالم العربي المأزوم. لذا لا بد من رؤى فلسفية معاصرة، تنتشل العقل العربي من المراوحة المزمنة بين أوهام الهوية ومقاومة التغريب. ولعل المفكّر اللبناني، في خلاصاته، يؤكد مجدداً على مشروعه الأهم حول استقلالية الفلسفة العربية، وإن بدا أشد ميلاً لمقولة الفلسفة الكونية المتعددة.
العلمانية عند نصّار، تطور تاريخي بالنسبة إلى الدين. هي معركة من أجل التطور، مفتوحة بدورها على «غنى الثقافات وتنوعها». يقسم صاحب «مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ» المنظومات المجتمعية إلى جزءين: المجتمعات المتطورة نحو العلمانية، والمجتمعات المتطورة في العلمانية. وبهذا المعنى، فإن العلمانية تدرّج حتمي رغم الجدل الافتراضي لعودة المعطى الديني ويقظة الهويات. وفي هذا السياق، لا يتوانى الكاتب عن ابتكار ترياق فلسفي لزعزعة الإيديولوجية الدينية، من طريق دراسة الدين والتفكير فيه من خارجه «علمياً وفلسفياً». من هذا المنطلق، ينتقد دعوات تجديد الفكر الإسلامي، لأنّها محدودة برأيه، ولا ترقى إلى مرتبة الإصلاح البروتستانتي.
كثيفة أفكار ناصيف نصّار في إشاراته ومسالكه. تخاطب العقل النقدي، لا التوهيم الديني والإيديولوجي. يقدّم المفكر اللبناني معادلات فلسفية علمية، لا تنتصر إلّا للعقلانية التي نحتاج إليها في المجال العربي الإسلامي للخروج من الدوغمائيات التي تكبلنا عبر ترسيخ الإصلاح في الدين والتربية والاجتماع والتعليم والسياسة بغية الوصول إلى الدولة العالِمة.