لا يمكن قارئ قصيدة النثر المغربية إلّا التوقف طويلاً أمام أعمال مبارك وساط الشعرية، بوصفها من أهمّ نصوص قصيدة النثر المغربية. الشاعر المقل الذي أصدر أخيراً «رجل يبتسم للعصافير»، كان دائماً في طليعة الذين طوّروا الشعر المغربي، ودخلوا به عالم الحداثة من أوسع أبوابها. في ديوانه الجديد الصادر عن «دار الجمل»، لا يحيد عن طريقته الخاصة في كتابة الشعر. قصيدة تتوغل في غابة النثر المختلفة المرجعيات، بل تحاذي السرد في بعض الأحيان. في الديوان الذي يتضمّن 22 قصيدة، يعود وساط إلى صباه. كأنّ قارئ القصائد يطّلع على سيرة ذاتية لصاحب «محفوفاً على أرخبيلات». وإن جاءت سيرة الآني في «رجل يبتسم للعصافير»، حاملة لبحث قصي داخل الذات، ولعالم غرائبي مثّل محرك الديوان الأساسي، إلا أنّ الصبا يحضر أيضاً بقوّة.

يلتقي الآني، والغرائبي، والطفولة في الكثير من القصائد: «ثمّ خرج نديمي المساء من البحر/ وأقبل نحوي/ حاملاً طَيَّ أجفانه/ سَمَكًا كثيراً وفي كفّيه/ مَحارُ طفولتي!». الطفولة التي تستعيدها نصوص الديوان ليست إلا تجلياً لروح وساط القريبة دائماً من عالم البراءة، بوصفها اندهاشاً بأشياء العالم البسيطة.
في نصوص مبارك وساط ــــ سواء المكونة لدواوينه الأولى أو لديوانه الجديد ــــ يتجاور التاريخ والجغرافيا. حداثة «بار» مارسيل سيردان تتجاور مع تقاليد «رعي العصافير، ويوليوس قيصر»، إن جاز التعبير. أحياءٌ يلتحمون بالأشياء الجامدة، فينقلون إليها صفاتهم. يقول في قصيدة «هجرة»: «علينا، فحسب، ألا نبيع لعابر/ مريول السّبخة/ ألا نترك أحداً يكتمُ أنفاس/ فردة حذاء/ حيّة/ ألا نزعج الأنبياء النّحاف المنسيّين/ في هذه الجَنّة الخرِبَة/ المحمولة على أنف الجَبَل/ أن نحاذر، قدر الإمكان،/ التّوقّف على مشارف الغابة/ التي تحلّق فيها/ العصافير/ على ظهورها...». قصيدة مبارك وساط متعدِّدة الهويات. تنتمي إلى الشعر الجاهلي، بقدر ما تنتمي إلى قصائد أندريه بروتون، ورينيه شار، وأرتور رامبو، ومؤسسي قصيدة النثر الفرنسية. هذا ليس بالغريب عن «الرجل الذي يبتسم للعصافير». طبيعة تكوين بساط المزدوجة اللغة، وانفتاحه على أهم تجارب القصيدة في العالم، منحاه تمكناً واضحاً من قصيدة النثر.
البحث عن السلالة حاضر أيضاً، ليس فقط عبر إشارات إلى الشعر العربي القديم وبعض تيماته، بل عبر تيمة «الجدّ» التي تظهر في نصوص عدة. في الجزء الأول المعنون بـ«أحقن عروق الدراجة بالنيكوتين»، يتحدث وساط عن الجدّ في ثلاث قصائد. الجدّ الذي ــــ وإن بنى بيتاً حديثاً من إسمنت ــــ يقرّر أن يهيم في الصحراء، على شاكلة الشعراء الجاهليين. يقول: «الطّفل قضى ساعات الصّباح متأمِّلاً ما بقي من بيت قديم كان للجدّ الذي شرع في هَدْمِه ذاتَ فَجر، عازماً أن يُقيم مكانه خيمة كبيرة من إسمنت. لكن، بعد أن خرَّب مُعظمه، حلّت به لعنةُ السّراب، فمضى لِيَتيهَ في الصّحراء».
هذه الصحراء ليست إلا ذريعة للتيه الذي يتكون في ما بعد داخل الديوان. في الكثير من القصائد، نحدس هذا المشي المرتبك الذي يحاول إعادة تفسير العالم. عملية البناء هذه قلقة. تتذرع أحياناً بالذاكرة والحنين «بُعَيْدَ الغروب/ ظهرت أشْباحُ/ درّاجاتنا القديمة/ وبدافع الحنين اعترضتْ/ سُبلنا».