المنامة | جاء قرار إيقاف «الوسط» أول من أمس – قبل أن يتم التوصّل إلى تسوية أمس (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة) – تتمّة لتنفيذ قانون الطوارئ الذي أُعلن في آذار (مارس) الماضي، ورغبةً حازمة في تهيئة الأرضيّة المناسبة لتطبيق عمليّات «التّطهير» التي أُعلنت في التلفزيون الرّسمي. كانت الثّورة البحرينيّة بلغت حدودها القصوى، ما أحبط النظام الذي عجز عن تطويق الاحتجاجات أو امتصاصها. هكذا، لجأ إلى تسوّل التدخّل العسكري السّعودي تحت مظلّة «درع الجزيرة». الاتّباعُ الأمني الكاتمُ للحُكم العسكري كان يفترض – حتماً – تجفيف كلّ المنابع الإعلاميّة التي تُعارض السّياسة العسكريّة المتّبعة، ولا سيما تلك التي كشفت عن الوجه الآخر للصّورة المعروفة في إعلام السّلطة. ومنذ البدء، وُجّهتْ إلى «الوسط» رسائل التّحذير والإنذار. هاجمت مطبعتَها ميليشيا مدنيّة سرّحتها الأجهزة الأمنيّة لإشاعة الفوضى في البلاد، أملاً في استدراج المواجهة المذهبيّة. وعند مطالعة المشهد خلال الشهرين الفائتين، يُلاحَظ أنّ المنابر الإعلاميّة الرّسمية لم تتوقّف عن توجيه الانتقادات العنيفة للصحيفة ورئيس تحريرها منصور الجمري الذي أقيل أمس بعد اجتماع مجلس إدارة الجريدة. وخلال الفترة القليلة الماضية، سُمح لكتّاب الصحافة «الحكوميّة» بكيْل الاتهامات المفبركة لمنصور الجمري والتّذكير بماضيه بوصفه معارِضاً للحكم في بريطانيا. وكالعادة، زجّ الإعلام الحكومي كلّ وسائله في الحذف والإضافة لتظهير الصّحيفة مخطوفةً من «المخرّبين»، وأنّها تزعزعُ الأمن والاستقرار في البلاد! منصور الجمري حاول خلال مسيرة الصّحيفة – التي انبثقت نتيجة الإصلاحات الأمنيّة التي أجريت عام 2001 – أن تكون صوتاً لمختلف فئات المجتمع البحريني، ليُعبّر من خلال ذلك عن إمكانية التعايش الوطني بين الجميع... الإمكانيّة المُهدَّدة باستمرار. كان طموحها المُعلن أن تكون إسهاماً إعلاميّاً لدعم ما سُمّي المشروع الإصلاحي للملك، وهو المشروع الذي ظلّ الجمري مستقوياً به حتى اللّحظات الأخيرة، واستتبع منه ذلك أن يبلور شكلاً من التّوازن المزدوج. من جهة، راعى الجمري خصوصيّة التّقاليد الاجتماعيّة، وهو القادم من بيئة دينيّة ديناميّة لكن محافظة مثّلها والده الرّاحل الشّيخ عبد الأمير الجمري الذي كان له دوره المؤثر في تسهيل الحصول على تصريح الصّحيفة وتشجيع المستثمرين فيها. تطلّب ذلك أن تجتنب «الوسط» الاصطدام بالمؤسّسة الدّينيّة، واكتفت بالتّعبير عن ليبراليّة معتدلة وفي الحقل السياسي العام. وتوجّهت مباشرةً للإعلاء من المسؤولية الاجتماعيّة للحرّيات، والتّذكير – المفتعل أحياناً – بالواجبات المُفترضة. يُفسِّر ذلك إحجام الصّحيفة عن صياغة خطاب تقدّمي للإصلاح الدّيني عبر صفحاتها، واكتفائها بإعداد بنية صحافيّة شابة، تخدمُ توجّهات الصّحيفة في رعاية الإصلاحات المحدودة وتغطية المساحات المجهولة أو تلك التي تعمّد تاريخُ الصّحافة الموجّهة تعميتها. شجّعت هذه المدرسة الصّحافية على توفير أجواء تنافسيّة في المشهد الإعلامي المحلّي. لكن المنافسة الجادة توافرت مع تأسيس صحيفة «الوقت» عام 2006، وقد تناوبت مع «الوسط» لعبة «خرْق» سقف الحرّيات الإعلاميّة الموضوعة، وأسهمتا في تخطّي السّقف مرّات كثيرة، لكن الليبراليّة الواضحة لـ«الوقت» وحماستها المهنيّة في التّجديد وكسر التابوهات الموروثة عجّلتا من نهايتها، فكان احتجابها الغامض في أيار (مايو) 2010. خلافاً للأزمة المالية التي يُقال إنّها عطّلت من فُرص استمرار «الوقت»؛ استطاعت «الوسط» أن تتحوّل إلى مشروع إعلامي استثماري، وبخطى متدرّجة وعالية الطّموح، ما جعلها في مأمن نسبي من أزمات «السّوق» الصّحافي.
في اللّغة الإعلاميّة؛ اجتنبت «الوسط» استنبات الصّيغ الجاهزة المعتادة في الصحف الرسميّة، وحاولت – بقدْر سقفها المُتاح – أن تستولد الجمل والتعابير الصحافيّة المنزّهة عن التوجيه والاستلحاق الحكومي. وكان لمدير تحرير الصحيفة اللبناني وليد نويهض – الذي أقيل هو أيضاً أمس – دوره الملموس في ذلك. لا يعني ذلك أنّها تنزّهت عن الاستقطابات السياسيّة الجارية، فالجمري وظّف صفحاتها مراراً لترجيح خيارات سياسيّة تؤمن بها جهات وتعارضها أخرى، وتملّكَ الجرأة في محطّات عديدة لنقد توجهّات جماهيريّة – آخرها تصريحاته التي قدّمها في دوار اللؤلؤة – واستطاع بذلك التخلّص من تهمة الشّعبويّة، ولكن من غير الإصابة المتحيّزة بمرض النخبة. الأخطاء التي وقعت فيها «الوسط» محسوبة على اجتهادها في تأسيس صحيفة مستقلّة، خلافاً للصحف الأخرى – أو «كلّ» الصّحف الأخرى – التي ترعاها السّلطة وأمّنت لها المشروعيّة الكاملة لإسقاط أبسط معايير الصّحافة المهنيّة. يتواصلُ إمداد هذه الصّحف بكل الاحتياجات ما دامت تخدم المشروع الأمني للنّظام، لكنّ زلات الاجتهاد التي يمكن أن تقع فيها «الوسط» كانت محسوبة عليها في إطار الاستهداف «السّياسي» القديم، وقد جاء أوانه أول من أمس. «الوسط» ستعود للصدور اليوم برئاسة تحرير جديدة، لكن السّؤال الأخطر هو: هل تعود كما كانت؟