رام الله | كأنّه حلم يقظة. أجل، التقينا شاكر لعيبي في رام الله. العثور على شبح أسهل من العثور على شاعر عراقي في فلسطين المحتلة. عند لقائه في مدينة فلسطينية مطوّقة بجدران الاحتلال ومستوطناته، لا بد من أن نستعيد دلالات أحد عناوين كتبه النقدية «الشاعر الغريب في المكان الغريب». الشاعر والفنان والباحث والمترجم والأكاديمي المرموق، جاء إلى فلسطين بجواز سفر سويسري، أستاذاً زائراً في «مشروع الأكاديمية الدولية للفنون ـــ فلسطين». مدرسة الفنون التي تأسست عام 2006، تتخذ من بيت المؤرخ الفلسطيني الراحل عارف العارف (البيرة) مقرّاً لها.
تضم على مقاعدها 32 طالباً وطالبة في الفنون البصرية، قضوا عشرة أيام مع لعيبي، في دروس حول سيميائية الصورة. كفاءة بحثية نادرة عربياً في مجال الفنون البصرية، وشاعر طفولته تدرج أمامه، وفوق كل ذلك حميمية عراقية عفوية، لا بد أنّها جميعاً وراء العلاقة الخاصة التي أنشأها مع الطلبة في وقت قصير.
«ليس لدينا في فلسطين متخصص بمستوى لعيبي في سيميائيات الصورة، ودعوته بالنسبة إلينا تشبه دعوة جرّاح قلب لا نظير له، إلى مستشفى تفتقد تخصصه»، يقول الفنان خالد الحوراني المدير الفني لـ«الأكاديمية». المحاضرة التي ألقاها الشاعر في «مركز خليل السكاكيني» أخيراً في رام الله حول «الخيال في الشعر والخيال في العمارة»، أثارت اهتماماً كبيراً في بيئة رام الله الثقافية التي تعجّ بالتناقضات. غوص لعيبي في «سريالية العمارة» بدا، وإن لم يقصد، على صلة ما بسريالية «النظام السياسي الفلسطيني» تحت المظلة الاستعمارية.

بحث لعيبي في «العمارة السريالية» (مشروع كتاب يشتغل عليه حالياً)، يضع الشعر بموازاة العمارة، في مرافعة متعددة الطبقات لصالح الشعر. من جهة ما فتئ «تاريخ العمارة الغربي يستبعد العمارة «البدائية» و«الكهفية» و«الريفية» وغير ذلك مما عُدّ «عمارة غير مثقفة»، كالعمارة النبطية في البتراء، وعمارة كابادوسيا في آسيا الوسطى (تركيا حالياً)، وكذلك «عمارة قصور» في تطاوين تونس، وجبل نفوسة في ليبيا». وفي الوقت نفسه، يعدّ عمله نوعاً من المحاورة، أو حتى الاستكمال لمؤلَّف غاستون باشلار La Poétique de l’Espace (شعريّة الفضاء/ ١٩٥٨) الذي عُرّب تحت عنوان «جماليات المكان»: «إنّه محاولة للذهاب إلى التخوم القصوى في مشروع باشلار، أي رؤية هذا الخيال الشعري وقد تجسّد شكلاً مادياً ملموساً بالفعل في العمارة. وبقدر دينها [المحاولة] لمشروع باشلار، فإن طبيعة انشغالها الأساسية تبعدها عن ذلك المشروع عينه».
في المحاضرة التي استمرت أكثر من ساعتين، عرض لعيبي مقولات العمارة، ورصد مفارقات التأريخ الغربي والتلقّي العربي، والكثير مما يغري بالنقاش. «في الوعي الأوروبي تمثّل العمارة احتفالاً بالدنيويّ، بينما هي تمثّل في الوعي الإسلامي والفكر السابق عليه في منطقتنا تذكيراً بالأخروي»، قال. ويورد أمثلة على هذه النقطة استشهادات من الشعر العربي وقبلها من ملحمة جلجامش: «هل نشيّد بيوتاً لا يدركها الفناء؟».
بدا الشاعر العراقي الذي قضى أكثر من نصف عمره في المنفى، مغتبطاً بوجوده على أرض فلسطين لأول مرة، رغم الأهوال التي رآها. «فظائع الاحتلال أسوأ مما نراها في الخارج، أسوأ من أبارتهايد جنوب أفريقيا». ويواصل صاحب «حسرة الياقوت في حصار بيروت»: «يمكن أن أترك أي شيء من أجل تقديم مساهمة صغيرة لفلسطين. الصراع العربي مع الاستعمار الإسرائيلي يحتاج إلى مختصين في الصورة. بفضل إدوارد سعيد صار من العيب أن يسمي شخص نفسه مستشرقاً... مثقفونا يعيدون صوغ ما هو موجود في المراجع الغربية. المطلوب تشكيل رؤية ومنهجية أخرى لتاريخ الفن، من دون أن نقطع مع المناهج الغربية».
بالطبع ثمة إشكالية بشأن زيارة العرب، لا سيما المثقفين والفنانين، لفلسطين وهي بعد تحت الاحتلال... لكنّ زيارة لعيبي تنسجم مع المعايير الفلسطينية لزيارة الفنانين والمثقفين العرب كما تحددها «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل» على سبيل المثال. بالإضافة إلى أن الدخول بالجواز الأجنبي يثير حساسية أقل، من حالات الدخول بجوازات سفر عربية، بما قد يوحي باعتراف عربي بدولة الاحتلال. إنه «الاستثناء الأجنبي» إن جاز التعبير ومن خلاله وصلتنا في السنوات الماضية أسماء أدبية عربية بوثائق «الأجانب»، وبمواقف واضحة لصالح القضية الفلسطينية. وهؤلاء لا يمكن الخلط بينهم وبين الذين دخلوا من باب التطبيع أو لأجله من الأسماء العربية الهامشية القليلة التي وقعت في الفخ الإسرائيلي. الشاعر البغدادي بدا واعياً وواضحاً في هذا الشأن: «أنا جئت بدعوة فلسطينية، لأدرّس طلاباً فلسطينيين، بما ينسجم مع التزامي بالقضية الفلسطينية التي أعدّ نفسي من أبنائها».
عشرة أيام عراقية مكتنزة بالمعرفة تركها لعيبي وراءه في الأرض المحتلة، قبل أن نلوّح له وهو متجه إلى «الجسر». وحتماً سيرى من جديد الجدران والحواجز والمستوطنات... سيرى الجريمة تصل حدودها القصوى، والحياة تجهد لتستمر بأنفاس فكرتي الحرية والمقاومة: شاكر لقد نسيت قصيدة في بيت عارف العارف، إنها أيضاً سريالية على ما يبدو.



موقع الشاعر www.perso.ch/slaibi
مختارات شعريّة غير منشورة لشاكر لعيبي