في زمن الثورات العربية وانتفاضة الشباب المدافع عن خيار الحرية وقيم الديموقراطية، تتراءى جلّ الأحلام ممكنة. تكبر فينا رغبة التغيير وقلب المفاهيم السائدة. لكننا ننسى، في لحظة من اللحظات، أن هناك أناساً «آخرين» مثلنا، يعيشون بعيداً في المنفى، غير قادرين على شمّ عبق الثورة التي تصنع يومياتنا. «آخرون» أرغمتهم آلة التعسف الرسمية على هجر طفولتهم وتمزيق ذكرياتهم. لهذا، قررت الروائية السوريّة مها حسن أن تمنحهم صوتها في رواية «حبل سرّي» (رياض الرّيس). يعرّف فولتير الوطن بالمكان الذي نجد فيه سعادتنا. تعريف يتفق بعض الشيء مع رؤية جان بول سارتر الذي يعتقد أنّ الوطن، مثل الشرف أو الحرية، مفاهيم يمكن تأسيسها أينما وجدنا، ولا تتصل برقعة جغرافية محدّدة. لكنّ مها حسن ترى العكس. شخصيات روايتها الأخيرة لا تشعر بالطمأنينة إلا من خلال التفكير في الوطن/ الأرض، والغوص في حلم العودة إليه يوماً ما.
ذلك ما نلاحظه مع تتبع تطوّر حياة البطلة حنيفة سليمان التي أحبّت السينما وهجرت شمال سوريا إلى فرنسا. هناك غيّرت اسمها إلى صوفي بيران، وشاءت الأقدار أن تجد نفسها وسط فضاء اجتماعي مستقرّ. لكنها تعيش قلقاً دائماً، مشوباً بالكثير من الخوف والارتياب. تصرخ مرّة، في وجه زوجها الروائي آلان: «أنتم شعوب لم تدركوا الاستعمار. كنتم مستعمرين لغيركم، لذلك فالشعور بالقوة والتفوق هو ما يملأكم، أما الانكسار والخوف، فهذا أمر لا تفهمه الشعوب المستبدة». رغم أنها عاشت سنوات طويلة في باريس، وأسست فيها صداقات حميمة، إلا أنّها تقرّ في النهاية: «أنا فرنسية نعم، بالأوراق، لكنني في العمق لست هكذا».
رغبة واحدة ظلّت تراود ذهن صوفي/ حنيفة طيلة حياتها: العودة إلى قريتها النائية في سوريا وملاقاة أهلها. لكنها ماتت في حادث سير، من دون بلوغ مرادها، فعهدت إلى ابنتها باولا مهمة تحقيق حلمها.
بعدما تجاوزت باولا العشرين، وشرعت بتجربتها الفنية في المسرح، زارت مسقط رأس والدتها. هناك، التقت بعض أفراد عائلة لا تعرفهم: شيرين، دلبرين، روزلين، إبراهيم، جدتها فريدة وجدها كمال. شعرت بفرح داخلي كونها حققت أمنية والدتها. لكنّها صدمت، في الوقت نفسه، بتنكر الجد والجدة لها، انتقاماً من الأم التي تمرّدت وهجرت قريتها وبلدها، معلنةً رفضها للمنطق الاجتماعي المنغلق، والبطريركية المطلقة. رواية «حبل سرّي» هي رحلة علاج الذات المنكسرة. سؤال الهوية المشتتة. لكنّ الرواية تحمل الكثير من الأسئلة الأخرى: «كيف يشعر الناس بالانتماء إلى المكان؟» تسأل صوفي أو حنيفة التي تتحدث دائماً «عن تلك الفجوة العميقة بداخلها، التجويف الذي يقطعها، يخترقها كوهاد شديدة الانحدار، تبعد تكويناتها الداخلية، وتشعرها دوماً بأنها خائفة، قلقة، غير متجذرة، مقطوعة».
يخيّم على الرواية شبح «خيميائي» باولو كويلو. تسافر البطلة عبر نقاط مختلفة، من جنوب فرنسا إلى شمالها، ومن أحياء حلب الشعبية إلى شوارع أمستردام الصاخبة. تحكي رغبات شخصيات عادية في عيش الممتع والممنوع. ترسم بورتريهات نساء يجسّدن اختلافهن بالتنازل عن بعض مظاهر أنوثتهن. رواية تنطلق من سذاجة حلم طفولة مسلوبة وتنتهي بفاجعة ومنفى.