القاهرة | عندما افتتح معرض هبة حلمي أوّل مرة في ثاني أيام الثورة ـــ 26 كانون الثاني (يناير) الماضي ـــ لم يكن أحد يعلم أنّه سيغلق أبوابه طوال الأسابيع التالية، ليعاد فتحه بعد أكثر من شهرين. طوال كل هذا الوقت، عندما كان أحد الأصدقاء أو المعارف يسألها عن المعرض، كانت هبة تحتاج إلى أن تفكر ثانيتين، لتدرك أنّه يتحدّث عن معرضها.
«ميدان التحرير جعلنا ننسى حيواتنا السابقة»، تقول، وتضيف ضاحكة أنّه أجمل معرض أقامته في حياتها من دون منازع، لأنّه سوف يظلّ مقترناً في ذهنها بذكريات الأيام التي أطاحت الديكتاتور المصري ونظامه.
ها هي قاعة «متحف بيت الأمّة» في القاهرة تعطي فرصة ثانية للزوار، ليتعرّفوا إلى كائنات منحوتة في الخشب، وطاولات خشبية ست، مع ما في جوفها من أشكال ومنحوتات. «بيكيا» معرض يتّخذ فيه الخشب أشكالاً مبدعة ليصير جسد إنسان أو حيوان، أو وجهاً ذا عينين مفترستين. أن تجعل من الخشب كائنات تنطق بحيوية جاذبة، أن تروّضه وتحوّله إلى أشكال مجرّدة ومحدّدة المعالم في آن، هذا هو التحدّي الذي خاضته التشكيلية الشابة مع مادة ليست سهلة على القولبة والتشكيل.
هذه بلا شك منحنيات جسد امرأة، وذاك ديك رومي ينطلق مزهواً بعُرفه المنحوت في نصف جوزة هند. هنا تمساح، يفتح فماً مفترساً، أنيابه مثلثات نحاس لامعة. وهناك وجه ينظر إليك بثبات، عينه نصف قُمْع صفيح، ورؤوس تنفجر على شكل قطع متشابكة من الصفيح، أو من بقايا «هارد ديسك» مستعمل، كأنّها تعبّر عن الإنسان العصري وكل ما يتداخل في ذهنه من معلومات وصور وأخبار، ومن وساوس وتوتّرات أيضاً...
الأفواه والعيون والشوارب والأسنان والرموش من مسامير وورَد وصَواميل، تجرّد الملامح، وتؤكد ما هو أساسي فيها. إحدى المسكات تحمل قفل حديد قديماً مكان الفم، قد يعبّر عن عدم القدرة على البوح بالشخصي الحميم، كما في لوحة زيتية، هي بورتريه شخصي عرضته الفنانة عام 2002 في أول معارضها الفرديّة.. أم هذا القفل يرمز إلى تكميم الأفواه الذي لم يندثر تماماً حتى بعد إطاحة رأس النظام؟
الخشب والصفيح لا يتجاوبان فقط في الأشكال النحتية، في الوجوه والحيوانات، بل داخل الطاولات الست أيضاً، والمربّعة الصغيرة أو المستطيلة الأكبر حجماً. الطاولات تحمل في جوفها أشياء بعثت فيها يد النحّاتة ـــــ التي تعمل أيضاً مصمّمة غرافيك ـــــ حياةً جديدة. أسطوانات لفرقة الـPink Floyd احتفظت بها منذ أيام المراهقة، مقصوصات طَعميّة، وأقماع صفيح، ومصائد فئران، وحصّالات، و«خمسة وخميسة». أشياء قديمة اكتشفتها هبة حلمي، وهي تتسكع في «سوق الجمعة» في القاهرة والإسكندرية و«السبتية»، وفي مملكة باعة الحديد، وتحت الرَبع وسط قاهرة المعز.
أشياء استمتعت بالتقاطها، لأنّها «تحكي حيوات قديمة» وتحاول هي «أن تجد لها مكاناً في حيوات آتية». مشوار بحث واكتشاف لم أتجاوب خلاله مع الخشب والمعادن فحسب، بل أيضاً مع البشر، وأصحاب المهن العتيقة الذين ما زالوا يتبضّعون في هذه الأسواق العتيقة، مثل «العربجية الذين يقتنون فيها ما يلزم لتجميل حميرهم»، كما تقول الفنانة في تقديمها للمعرض.
تدخل هذه القطع الصغيرة في قلب الخشب، خشب السرسوع والجمّيز والكافور الذي جاء من سوق تحت الرَبع والمريوطيّة والسبتية ومن الساحل الشمالي. هنالك مرسم جميل شفيق، الرسّام والنحّات الذي ألهم هبة حلمي بأعماله المشغولة من طرح البحر. فقد أهدى إليها بعض القطع من تلك الأشياء التي ترميها الأمواج ومنها مصباح كهربائي لسفينة وجده على الشاطئ. استعملت هبة المصباح في إحدى الطاولات المعروضة، فكان واحداً من الألغاز التي تسلّى الزوار بتخمين هويتها. كأنهم يكتشفون «حياته الماضية التي تعطيه ذلك السحر المبهم، وهالة الأشياء القديمة الغامضة».



«بيكيا»: حتى 21 نيسان (أبريل) الجاري ـــ «متحف بيت الأمة» (القاهرة)