«إذا كان ميرس كونينغهام (1919 ــــ 2009) هو الأب الروحي للرقص المعاصر، فإن ويليام فورسايت هو بلا شك الابن الرهيب لهذا الفنّ». هكذا اختصر أحد النقّاد تجربة الكوريغراف والراقص الآتي من لونغ آيلاند في الولايات المتحدة، ليصبح أحد أنبياء الرقص الحالي في أوروبا، حيث تركّز حضوره بين فرانكفورت وباريس. لقد خلخل قواعد الكتابة الحركيّة وتقاليد المشاهدة، وابتكر أشكالاً وقوالب ولغات غير متوقّعة.
وأنتج ما لا يقلّ عن مئة عمل على امتداد ثلاثة عقود (اثنان منها في «باليه فرانكفورت»: ١٩٨٤ ــــ ٢٠٠٤)، بينها تجارب مفصليّة، عُدّت علامات، بل منعطفات، في مسار الرقص المعاصر، مثل جورج بلانشين (١٩٠٤ ـــ ١٩٨٣) الذي ذهب بفنّ الباليه إلى أقصى احتمالاته، خطف فورسايت الباليه إلى مكان آخر. طبّق قواعده الصارمة على أشكال جديدة من خارج المنطق التقليدي والأدوات النمطيّة والريبرتوار المتوارث. ذلك هو سرّ الفنان الراديكالي والرؤيوي الذي يتعامل مع الراقص كشريك في الأداء. لقد تدرّج من النيوكلاسيكيّة إلى التجريد والمينيماليّة، متأثّراً بالتعبيريّة الألمانيّة وتعاليم رودولف فون لابان (1879 ــــ 1958)، تأثّره بالبنيويّة وكتابات دريدا وفوكو ورولان بارت. وبقي مستعصياً على التصنيف في مدرسة أو اتجاه، مستعملاً لغة شاملة، تقوم على الحركة والضوء والجسد والمسرحة، بقدر ما تتسع للنصّ والهندسة والفلسفة، من دون أن ننسى فنّ التجهيز الذي خاضه مراراً، كما في Retranslation (٢٠٠٦) عن اللوحة الأخيرة غير المكتملة لفرانسيس بايكون.
من شبابه الأميركي احتفظ فورسايت بسهولة الانفتاح على الأفكار الجديدة، والتقاطها. ومن الروك إند رول استقى ولعه بالحركة المركّبة والسرعة، وبحثه الدائم عن تراكم المفردات المتنافرة أحياناً، وتوظيفها في دوّامة شيطانيّة قادرة على استباق الواقع وتجاوزه. بعد «جامعة جاكسونفيل» في فلوريدا حيث درس الرقص الكلاسيكي والباليه جاز، ثم «مدرسة جوفري باليه» في شيكاغو، يمّم شطر القارة القديمة، ليجد نفسه في شتوتغارت، تحت جناج جون كرانكو مكتشف المواهب التي غيّرت المشهد الراقص في العقود الأخيرة، من جون نوماير إلى جيري كيليان... هنا سيقدّم «أرتيفاكت» (١٩٨٤) التي أعلنت ولادته الحقيقيّة.

هزّ فورسايت عالم الرقص باشتغاله على السرعة، ولعبه على اللاتوازن، على تخلّع الأجساد وخلخلة البنى. بنى مشروعه على التحوير التقني لمفردات الرقص الكلاسيكي، كما في «ضياع تفصيل صغير» (١٩٩١)، «شيء مسطّح واحد تم استنساخه» (٢٠٠٠) حيث يتحرك الراقصون مع عشرين طاولة معدنيّة، و«الغرفة كما كانت» (٢٠٠٢)... فكّك اللغة القديمة، واستعمل عناصرها في سياق مغاير، صهر الباليه بأصوله الصارمة، في انفلاتات الرقص الحديث ونزوعه إلى تكسير القوالب.
هذا الذي نشاهده أمامنا يشبه الباليه إلى حد بعيد، انحناءات الاجساد ووضعيات الأقدام والأيدي، وحركات الأذرع، وعلاقة الجسد بالفضاء. لكن سرعان ما تنجرف المفردات تبعاً لزوايا حادة، وانزياحات صادمة، بفعل ديناميّة تبعث على الدوار، وميكانيكيّة تؤدّي إلى زوغان الأجساد عند حافة فقدان التوازن. يبحث الكوريغراف الراديكالي عن مصدر الطاقة من خلال احتكاك الأجساد المتوتّرة ببعضها وبالفضاء. الباليه بالنسبة إليه «شكل من أشكال الخطاب، لا استظهار شكلاني أو تكرار لمنظومة جاهزة». وقد رأى النقّاد ومؤرّخو الفن أن ما فعله فورسايت، من خلال أعماله الصادمة والاستفزازيّة، ليس إلا «تجديد الرقص الأكاديمي من داخل...».
الليلة يفتتح فورسايت (١٩٤٩) «مهرجان بيروت للرقص المعاصر»... غيابياً للأسف. سيأتي راقصون من «فورسايت كومباني» وحدهم، ليقدّموا ثلاث مقطوعات حركيّة جمعت تحت تسمية معبّرة هي «أعمال الحجرة»، كما نقول موسيقى الحجرة لنميّزها عن الأعمال الأوركستراليّة الكبيرة:The Vile Parody of Address (١٩٨٨، العنوان مستعص على التعريب)، مبنيّ على تسجيل لغلين غولد يؤدّي على البيانو عملاً شهيراً لباخ (The Well-Tempered Clavier). مجموعة رقصات منفردة يسيّرها صوت خارجي، تعطي فكرة دقيقة عن طريقة فورسايت في تفكيك البنى الكلاسيكيّة، وفي الجمع بين الثقل الجسدي والليونة، واستعمال الجذع والذراعين. «النصّ الأوّل» (١٩٩٥) الذي ألفه مع دانا كاسبرسن، يمضي في الاتجاه نفسه، وسط الخشبة العارية، عند لحظة تحلل اللغة الكلاسيكيّة في قالب مينيمالي تجريدي وحديث (راجع الفيديو على موقع «الأخبار»). أما .N.N.N.N (٢٠٠٢)، فيقوم على رباعي راقصين تختلط أعضاؤهم وحركاتهم، وتتقاطع في لعبة انفصال واتصال على موسيقى توم ويلمز. يختبر فورسايت من خلال المهارة التقنيّة، مقدرة الجسد على كتابة النص الموسيقي في الفضاء. باليه الأذرع والأيدي يحيلنا إلى مناخات دادائيّة، بين عناق وتقوقع، وذوبان بطيء في الكتلة حتى التلاشي.
خلال السنوات الأخيرة مضى ويليام فورسايت إلى مزيد من الراديكاليّة. في Three Atmosperic Studies (٢٠٠٦)، انطلق من لوحة ثلاثيّة تعود إلى عصر النهضة بعنوان «الصلب» للألماني لوكاس كراناش، في تقاطعها مع صور من العالم العربي، ليحكي رحلة أمّ تبحث عن أسباب موت ابنها. أمّا عمله الأحدث الذي كنّا نتمنّى مشاهدته في بيروت، فهو «نعم لا نستطيع» (٢٠٠٩) الذي يلعب على شعار أوباما الأجوف، مصوّراً الفوضى البشريّة، وانقطاع الروابط، وانحسار الأحلام... هنا يجد أسلوب فورسايت كل معناه: تصوير شروخ عالمنا المعاصر.



«أعمال الحجرة»: 8:30 مساء اليوم ــ «مسرح المدينة» (بيروت)
16 أيار (مايو) المقبل ــــ «مهرجان رام الله للرقص المعاصر»







http://www.youtube.com/watch?v=hDTu7jF_EwY&feature=related