من هم شيعة جبل عامل؟ وأيّ دور لقلق الهوية في اجتراح ما سميّ بالشيعية السياسية الآخذة في بناء حضورها منذ الثورة الإسلامية في إيران؟ وهل الشيعة العرب، ومن بينهم أبناء جبل عامل، أعدّوا العدّة لإحياء صحوتهم على حد تعبير الخبير في الشؤون الإيرانية وليّ نصر؟في «شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية: 1918 ـــــ 1943» (دار النهار ـــــ تقديم منذر محمود جابر) ترصد الكاتبة العراقية تمارا الشلبي إرهاصات تكوّن هوية الشيعة العاملية على مدار عقدين. اختيارها هذه الحقبة ينبع من معطيَين أساسيين: إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920؛ والعمق التاريخي والثقافي لشيعة جبل عامل داخل مجال جغرافي حوّلهم من مدار الخلافة العثمانية الى ما سماه أحمد بيضون «لبنان الافتراضي».
قبل أن تغوص صاحبة «وصول متأخر الى حفلة شاي في قصر الغزلان» في الإشكاليات المسكوت عنها في التأريخ المنسي للشيعة العاملية، تعود الى تلك «الأقلية الدينية المسلمة»، زمن السلطنة العثمانية، التي بقيت على امتداد أربعة قرون (1516 ـــــ 1918) تتلقى ارتدادات سياسية دينية مما يمكن تسميته الإسلام السنّي الرسمي، لكن المفارقة تتمثل في الأدبيات العربية والإسلامية واللبنانية التي «أهملت شيعة جبل عامل» باعتبارهم «طائفة هامشية». ثمة مفاتيح معرفية كثيفة الدلالة، يمكن الكشف عنها في مسيرة العامليين. الشلبي التي اعتمدت على وثائق ومخطوطات ومراجع وشهادات، لامست القسم الأكبر من وعي شيعة جبل عامل لذاتهم وللآخر عشية انهيار الرجل المريض وتدرجهم في استنهاض هويتهم عبر لبنان الجديد. «الأمة القلقة» ـــــ كما وصفها وضّاح شرارة ـــــ مرت بدورات متقلبة سواء حين استتبعت بولاية بيروت زمن العثمانيين، أم إثر انضمامها الى «لبنان الكبير». ورغم أن شيعة جبل عامل المنسيّين لم يكونوا من صنّاع القرار مع السلطنة وبعدها بقليل، لكنهم بنوا حيزاً ثقافياً وسياسياً، أدخلهم التاريخ. هكذا، أسسوا إرثاً معارضاً يعود الى ما قبل الفترة الممتدة من 1920 حتى 1943.
لا تؤرخ الباحثة العراقيّة للمشهدية السياسية عند شيعة جبل عامل فحسب، بل تحدّد الفضاء الاقتصادي والديني والاجتماعي الذي بلور معالم هذه الهوية. الى جانب ذلك، تكثّف إطلالاتها على طرق التعليم في المدارس العاملية النائية، وعلى أبرز الوجوه الثقافية، أبرزها «الثلاثي العاملي» الشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا ومحمد جابر آل صفا. هؤلاء المثقفون «أول من تكلم في جبل عامل عن وطن عربي ودولة عربية»، من دون أن يتأخروا عن «الالتحاق بالخطاب القومي».
من ولاية بيروت الى لبنان، بدأت الهوية الشيعية العاملية حركة الاندماج في الدولة الفتية. الانضمام الى لبنان الكبير مهّد الطريق أمام الهوية الشيعية العاملية، لكن ذاك الآخر، أي دعاة القومية اللبنانية، ومن بينهم ميشال شيحا، لم ينظروا الى ذلك الجزء الجنوبي إلّا من خلال الرؤية البرجوازية التي ترفض احتواء التعددية. وهم إن أشاروا إليها، فغالباً ما تأتي تلميحاتهم مجتزأة أو على شاكلة الأدب الاستشراقي. وفي هذا السياق، لم يكن جبل عامل في المنظور اللبناني كما تؤكد الشلبي قابلاً لاحتواء الشيعة. و«رغم تصريحات شيحا بخصوص اجتناب التعابير الطائفية، فقد أعطت رؤيته سيطرة اقتصادية وسياسية للمسيحيين، ولم تترك لباقي الأقليات المصنفة طوائفياً، مكاناً في إدارة الدولة الوطنية الجديدة».
شيعة جبل عامل في تاريخهم المنسي، كانوا على تماس ووعي بهويتهم، إلّا أن الحرمان بمعانيه المتشعبة، منعهم من تكوين نخبة سياسية. وطوال تعاقب الخلافات على ديار الإسلام، ظلّوا يمارسون استراتيجية المعارضة للظلم من بوابة الأئمة والمشايخ. وحالما أصبحوا على احتكاك بلبنانهم، سلكوا مدارج الانخراط على المستويات الدينية والسياسية والثقافية. مع الإشارة الى أنّ الاعتراف الرسمي بالمذهب الجعفري عام 1926، وإنشاء محكمة التمييز الجعفرية، كانا بمثابة المدماك الأول لما تسميه الشلبي «السياق التنظيمي».
«شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية» يقدم إجابات عن تاريخ مستبعد، تعود جذوره الى الافتراق السياسي الذي طبع الإسلام المبكر. صحيح أنّ الأنموذج الذي اختارته الشلبي يغطي جغرافيا ومرحلة زمنية محددتين، لكنه يدفع القارئ الى طرح سؤال مفصلي في الوقت الراهن: «لماذا يقلق كثيرون من صحوة الشيعة السياسية من المحيط الى الخليج؟».