دمشق | منذ اندلاع التظاهرات في سوريا، اتخذت كلّ فضائية «خندقها» في تغطية الأحداث، باستثناء «الجزيرة» التي بدت في حيرة من أمرها، وقد أصيبت بارتباك واضح. المحطّة التي كانت عاملاً حاسماً في دعم الثورات في تونس ومصر وليبيا، شعرت بالعجز أمام الامتحان السوري، وسرعان ما رأى المراقبون أنّها لم تشأ لعب الدور نفسه ضد «دولة صديقة لقطر». وإذا كان تريّث الأيّام الأولى لحركة الاحتجاج في سوريا، عرّضها لسيل من الانتقادات، فلن يحميها دخولها اللعبة لاحقاً من نوع آخر من الحملات، المنهجيّة والمركّزة. هكذا أفردت المحطة مساحات للحدث السوري عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع، واستضافت محللين وناشطين وحقوقيين لتحليل الحدث، مستعينةً بمقاطع فيديو انتشرت على المواقع.هنا وجدت «الجزيرة» نفسها مجدداً أمام حملة شنّها بعض الإعلام السوري وبعض نجوم الدراما الذين ظهروا على التلفزيون، لينتقدوا المحطة وشعارها «الرأي والرأي الآخر». ورأى المنتقدون أنّ ما تبثّه يقتصر على رأي المواطنين الذين أعلنوا التمرّد على النظام. وقد نظّم اعتصام يوم السبت أمام مكتب القناة في دمشق لمطالبتها بـ«تقديم اعتذار رسمي للشعب السوري عن الحقائق التي زيّفتها ضد سوريا والفتنة التي حاولت إشاعتها بين السوريين». طبعاً لا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيراً استراتيجيّاً مرّاً كي يفكك خلفيّات هذا الضغط على المحطّة القطريّة.
وتقف القنوات الرسميّة السورية في قلب هذه الحملة المضادة التي تتولى مواجهة «محطات التزييف والكذب». وتعاقبت تقارير التلفزيون الرسمي التي تردّ على تغطية المحطات الأخرى، ومن بينها «العربية» و«فرانس 24» وBBC و«الحرة»، واضعة كل المحطّات على اختلاف أجنداتها ومصالح مالكيها، في سلّة واحدة تتصدّرها القناة القطرية...
ومن «القرائن» التي تمسّك بها الإعلام الرسمي السوري لتأكيد «انحياز» المحطّة، فيديو تسرّب من «الجزيرة» وجرى تداوله على موقع «يوتيوب» يوم الجمعة قبل أن يُحذف لاحقاً، وبثّه تلفزيون «الدنيا» السوري. يظهر الشريط المفكّر عزمي بشارة في استوديوهات الفضائيّة القطريّة في الدوحة خلال فاصل إعلاني، طالباً من المذيع السعودي علي الظفيري تفادي الحديث عن الأردن، وسائلاً عما إذا كانت 40 دقيقة تكفي للحديث عن سوريا. رأى الإعلام السوري في هذه الثواني المسروقة دليلاً قاطعاً على أن المفكّر العربي النقدي والمنحاز لحريّة الشعوب العربيّة، «انقلب» على صداقته لسوريا لمجرّد تأكيده ضرورة الإصلاحات.
ومنذ الجمعة، ازداد الهجوم على بشارة و«الجزيرة» في بعض المنتديات الإلكترونية. وتساءل عدد من المراقبين: من هو قائد الأوركسترا الخفي لهذه الحملات المنظّمة؟ في الاعتصام الذي نفّذته مجموعة أمام مكتب الجزيرة في دمشق، أول من أمس، كان بوسع الناظر أن يقرأ بين الشعارات: «تسقط قنوات الفتنة الطائفية»! وطبعاً في هذه الحرب على «الجزيرة»، كل الأسلحة مسموحة. إذ يذكّر بعضهم بخطأ ارتكبته المحطّة قبل فترة، حين بثّت صوراً لتعذيب سجناء في العراق على أنّها تدور في معتقلات يمنيّة...
وكالعادة عند هذه المنعطات الحاسمة التي تتأرجح فيها المحطّات الإعلاميّة بين نارين: تجاهل الانتفاضة أو مواكبتها الحذرة، تجد نفسها عرضة للنيران من كل الجهات... ما يطرح أزمة الإعلام (التلفزيوني خصوصاً) في سعيه إلى شيء من المهنيّة والموضوعيّة، والتحديات المطروحة عليه في هذا الربيع العربي الصعب.