في خِضَمّ الثورات العربية، يبدو البحث عن مشروع واضح وصريح في الحكم، ضرورة ملحّة. في هذا الإطار، يأتي كتاب توفيق السيف «رجل السياسة: دليل في الحكم الرشيد» (الشبكة العربية للأبحاث والنشر) في التوقيت المناسب. في تسعة فصول موسعة، يستعيد السياسي السعودي، والمعارض السابق مفاهيم أساسية في علم السياسة، وتوضيح بعض معالم الثقافة السياسية الجديدة. هكذا، يعرض أبرز قواعد التنظيم السياسي والاجتماعي الحديث،
مركزاً على مكانة الفرد وعلاقته بالجماعة، ومفهوم الدولة وعلاقاتها بالمجتمع، وآلية اتخاذ القرار.
يكتب السيف في مقدمته: «إنّ بلدنا السعودية ـــــ مثل سائر جيرانه ـــــ يتحوّل بالتدريج إلى مجتمع حديث. ويترافق هذا الانتقال مع تغييرات في مختلف جوانب الحياة الشخصية والعامة، من مصادر وأساليب المعيشة، والتربية والتعليم وانتقال المعلومات، وعلاقة الفرد بالجماعة، إلى مفهوم الدولة ومهماتها وعلاقتها بالمجتمع». بعض هذه التغييرات هي نتاج مقصود لسياسات وخطط، تستهدف تغيير التوازنات القائمة في النظام الاجتماعي، يخبرنا الكاتب. من بينها مثلاً، تلك الناتجة من تحول النظام الاقتصادي، وتوسع التعليم، والاتصال الجمعي. لكن ثمّة تغيرات غير مقصودة بذاتها، مثل القفزات التكنولوجية، والحروب، والكوارث الطبيعية. المثال الواضح على هذا النوع هو التغييرات والتحولات في نفوس الناس ومواقفهم، بعد حربي الخليج الأولى والثانية، وانتشار الإنترنت والتلفزيون الفضائي.
ويتجسد الانتقال إلى الحداثة بنحو ملموس من خلال تغيير أنماط الحياة، على صعيد العلاقات الاجتماعية، واللغة والسلوكيات الشخصية. هذه التغييرات الملموسة هي التجسيد الظاهري لتحولات أكثر عمقاً، وتطال القيم الناظمة لخريطة الأفراد الذهنية، وسلوكهم، وهمومهم، وتطلعاتهم.
ويفرد الكاتب مساحةً لشرح التباين في التوقيت بين التغييرات المادية (فوق السطح) والتغييرات الثقافية (تحت السطح). في كثير من الأحيان ـــــ وهذا ما يظهر في منطقة الخليج مثلاً ـــــ يبدأ الناس بتغيير حياتهم انطلاقاً من مقارنات سطحية بين تقاليدهم المعتادة ونظيرتها الجديدة. المسألة بطبيعة الحال أعقد من ذلك، إذ تشهد المرحلة الانتقالية تدهوراً مستمراً لمنظومات القيم الموروثة التي يقوم على أرضيتها الإجماع الوطني، وشرعية النظام الاجتماعي/ السياسي. هذا التدهور يستدعي إعادة بناء الإجماع، وتأليف منظومات قيم جديدة. إهمال هذا الجانب قد يطيل المرحلة الانتقالية المتسمة بعدم اليقين، وكثرة الخلافات، وتصاعد القلق، ما يُعبّر عنه في صورة «أزمة هوية».
يستهدف بحث توفيق السيف إغناء النقاش حول الحداثة في جانبها السياسي، وصياغة فهم مشترك للحياة المدنية. لهذا يركز السيف على التعاقد أساساً للنظام الاجتماعي، والحريات العامة، وسيادة القانون، وصيانة حقوق الإنسان، والمشاركة الأهلية في الشأن العام. في هذا السياق، يخصّص الفصل الأول لسؤال محوري في علم السياسة، وهو سؤال مفهوم الدولة. يعرض هنا أبرز التحولات التي تعرّض لها المفهوم، متطرقاً إلى إشكاليّة المصدر الغربي في الفلسفة السياسية العربيّة، والعلاقة بين مفهوم الدولة، وبيئتها الثقافية التاريخية، مشرحاً العوامل التي تسبّبت في تأخّر هذا البحث في العالم الإسلامي.
في فصول لاحقة، يصل السيف إلى الروابط الاجتماعية وتكويناتها، بهدف تبيين الفارق بين رؤيتين: رؤية قديمة تركّز على الهوية الجمعية، ورؤية حديثة تركز على استقلال الفرد. هنا، يستعيد معنى العقد الاجتماعي، وأهميته، والتطورات الفلسفية والسياسية التي ساهمت في إبرازه. ويركّز على نظريات توماس هوبز، وجان لوك، وجان جاك روسو... يقارب العقد الاجتماعي من ناحية دينية أيضاً، إذ يناقش إمكانية تفكيك المبدأ الذي تطوّر في أوروبا، وإعادة إنتاجه على أرضية القيم الإسلامية.
في «رجل السياسة: دليل في الحكم الرشيد»، يخصص السيف حيزاً لعرض الإطار السياسي للحرية، مركزاً على أبرز إشكالياتها، لكونها حقاً أصلياً للإنسان. لكنّه يختم بإيضاح التقييد الممكن للحريات في إطار القانون. كذلك يعرض مبدأ الإرادة العامة مصدراً لإلزامية القانون، والعلاقة بين القانون والعدالة، وحق الحكومة في الأمر والنهي واستعمال القوة والتصرُّف بالأموال العامة.