يعود أسامة بعلبكي (١٩٧٨) إلى «غاليري أجيال» البيروتيّة، ابتداءً من مساء غد، بمعرض جديد يحمل عنواناً معبّراً: «مراسم العزلة»، كما نقول «مراسم» العزاء. العزلة خياراً وجوديّاً وفلسفيّاً، لكن أيضاً خياراً جماليّاً. العزلة مجموعةَ طقوس مكررة لدى الفنّان اللبناني الشاب الذي يضع بينه وبين الخارج هذه المرآة السحريّة، فتردّ له صوراً ومشاهد وحالات، مصطنعة غالباً، بل ذهنيّة إذا فضّلنا. انعكاسات لعالم داخلي آخر لا نراه.ليست حياته تلك التي لا يتوقّف عن استعادتها فوق اللوحة، في مشاهد مسرحيّة، مهندسة بعناية لا تترك مجالاً لأدنى عفويّة. بل حيوات أخرى، محنّطة، مجفّفة، مؤسلبة. لنقل إنّها حياة مختلقة. نحن أمام مسرح افتراضي، ميتافيزيقي، ذهني ومجرّد، يلعب فيه دور المخرج والمؤلّف والسينوغراف... والبطل طبعاً. والمتفرّج قبل كل شيء، وقبل الجميع. يخترع الفنّان في لوحاته الأوتوبيوغرافيّة ـــــ كما في أعماله الأخرى التي تعكس بدورها خراب الروح ـــــ حياة مجرّدة. يعيد تركيب مشاهد أليفة، مونوكروم غالباً، تلفّها هالة من الغرابة. كأنّه ينشئ تجهيزاً لكن داخل اللوحة، يبدع فنّاً مفهوميّاً، استغنى فيه عن البعد الثالث.
تتعايش في اللوحة، غالباً بألوان الأكريليك الداكنة، أساليب وإحالات مختلفة، من واقعيّة وتعبيريّة وانطباعيّة. الواقعيّة على سطح اللوحة، تنقض الواقع، تفرغه من صخبه، من نثريّته، من نسغه أيضاً. ما يفعله هو (محاولة) اعادة تشكيل الهيكل الخارجي لحياة كانت هنا. تماماً مثلما يرسم في «لوحات الخراب الصالونيّة» سيارات مبقورة وباصات محطّمة، مجعلكة، ذابت في معدنها وانصهرت في هلامها. يجعل منها كائنات خرافيّة ووحوشاً أسطوريّة، على خلفيّة ريفيّة مضيئة خضراء، مستعارة من مدرسة باربيزون. نحن في النهاية أمام احتفاء طقوسي بالخراب، بالموت، بالغياب. البرود الظاهري الذي لا يترك مكاناً للمشاعر والانفعالات، يمثّل هنا، بمعنى ما تهديداً خافتاً، ويولّد لدى الناظر شعوراً بالقلق. التنسيق الصارم للمشهد، لا يترك مجالاً لأي تسرّب عاطفي، أو انفجار شعوري.
إذا كان نرسيس هو مخترع فنّ الرسم حسب ليون باتيستا ألبرتي (1404 ـــــ 1472)، فإن أسامة بعلبكي يبدو بعيداً عن أي سعي نرجسي لتكريس الذات أو الاحتفاء بها، بل إنّه في موقع مخاصمتها وإقصائها والاعتداء عليها وإلغائها. كذلك لا يبدو مسكوناً بهاجس الغوص في الأعماق، أو التعبير عن المشاعر الدفينة. هل نبالغ إذا قلنا إن رسومه الذاتيّة تستعير من الطبيعة الصامتة أكثر من الأوتوبورتريه؟ إنّه يعيد إنتاج نفسه في وضعيّات مختلفة، وحالة واحدة متكرّرة: الحياديّة الصمّاء، مضافاً إليها بعض الإشارات التغريبيّة، والغمزات الطريفة التي تكسر من وطأة التراجيديا.
كل مشهد حالة ذهنيّة مركّبة بعناية في مسرحه الوهمي. لذا تأتي الإضاءة محايدة، معتدلة، متوازنة، متجانسة، ذهنيّة، مسلّطة بالتساوي على كل أجزاء المشهد. اللوحة كتلة واحدة من دون نقطة تلاش. والمسرح ليس سوى فضاء الفنان الحميم وقد بات محترفه. فيه يتحصّن من العالم الخارجي، وسط ديكور أليف، بين غرف البيت وأثاثه وإكسسواراته. الأشياء الحقيقيّة المرسومة بأمانة حسّية كومبارس أساسي في هذا «العرض». الأشياء الهشّة والهزيلة، تضخّم الحالة المتأرجحة بين جديّة وخفّة.
في مملكة التفاصيل الصغيرة، على كل متفرّج أن يبحث بعناية عنها في ثنايا اللوحة. الكرسي والكنبة والفراش واللحاف والمنضدة والـ«لامبادير» والدورق وباقة الزهور وعلبة النظارات والشوفاج القديم وكتب الشعر... والـ«مانيفيل» المزروعة في الأذن ذراعاً ميكانيكيّة لتشغيل الدماغ ربّما. والـ«شابكا» الروسيّة التي يعتمرها في أحد المشاهد، بينما نستشفّ في العمق صورة مؤطّرة لرجل أصلع كأنّه لينين (هذه الصورة أيضاً موجودة لدى أسامة)، ويحمل «هو» علماً صغيراً أحمر يثبته على فخده مُطرِقاً إلى الأسفل. وهناك «السيشوار» يسدده إلى رأسه كمن يتهيأ للانتحار في مرآة الحمام. ومسطرة يقيس بها رأسه في لوحة «على القياس». نراه من الخلف، في لقطة جانبيّة، مطرقاً، جالساً، واقفاً، نائماً، ماحياً وجهه وراء خصل الشَعر الكثيفة، أو مخبئاً جزءاً منه خلف المزهريّة... محدّقاً في اللمبة التي يحتضنها بعناية كأنّها تختزن سرّ الوجود. تارةً يأتيه رسول ليهمس في أذنه كلاماً مكتوماً عبر مكبّر صوت، وطوراً تزوره جنيّته ـــــ الحوريّة نفسها ملهمة الشعراء الملعونين ـــــ لتمسح عن عينيه، بيديها الطويلتين، هذا الإعياء الذي لا يقال.
لعلّنا خارج سياق الأوتوبورتريه كما عرفه تاريخ الفنّ، منذ عصر النهضة وحتّى الأزمنة الحديثة. حين ينظر أسامة في المرآة يرى الغياب، والرسم عنده إعادة إنتاج ليتم وجودي عميق. صغيراً، يخبرنا أنّه كان يستغرب شكله في الصور وفي المرآة، يشعر أنّها لشخص آخر. وقد لازمته حالة عدم الإلفة تلك، أو لنقل الفصام الذي يقود إلى الشقاء. وها هو يحاول أن يتخلّص من هذه الصورة، يبحث لها عن عذر أو دافع. يكرّرها حتّى المحو والاضمحلال. مهووس هو بمراقبة ذاته، وإعادة إنتاج صورته حتى استنفادها. لقد اختار أن يكون «هو» موديله الأوحد، ممثّله وكبش فدائه في هذا الطقس المكرّر حتّى الزوغان.
ليس الفنان موديلاً لنفسه فحسب، بل خصم وغريم، كائن غريب غير قابل للتدجين. يشعر بأنّه يتخلّى عن نفسه إذ يرسمها، يتحرر من عبئها. لا يتماهى مع ذاته بل ينفصل عنها... صورته ليست له، إنّها الطيف الذي يلاحقه كاللعنة، يرسم كي يتخلّص منه، كي يهادنه على الأقل، كي يتطهّر من أدرانه. يتعالج من الانطوائيّة والخجل والغربة عن طريق مكاشفة قسريّة مع النفس. يسعى إلى التصالح مع الذات عبر مسرحتها، تحويلها موضوعاً، بطلاً، شخصيّة مسرحيّة.
يرسم بعلبكي الخراب المؤنسن والوحشة المؤنسة. يواصل الانزواء في عالم مقفل. يتوارى خلف ذات اصطناعيّة، بحياديّة ظاهريّة تخفي يأساً وجودياً قاتلاً. الأوتوبورتريه هنا، مجاز الكينونة المعذّبة. اتجاه سوداوي يصبّ في العدميّة، ويفسّر غياب اللون. الرماديّات تتيح انسجام السطح الذي يبدو أزليّاً، لا تعكّر صفوه آنيّة العواطف والأفكار المباشرة. يساعد اللون الواحد على تفريغ الخراب من عنفه الخارجي. ينتج لوحة ذهنيّة جسدها واقعي. الأسود والرمادي هما الحليف الخفي للضوء الذي يحجب التراجيديا بقدر ما يعلنها، يستبطنها ويرشح بها. يأتي الضوء ليخفي، لا ليكشف. الضوء الوصفي الذي يضمن استمرار الحكاية. حكاية صورة تهرب من صاحبها، فيحاول القبض عليها، يعتدي عليها مراراً وتكراراً الى حد إلغائها: تلك محاولة محاولة يائسة وعبثية للتصالح مع الوجود.
«مراسم العزلة»: الافتتاح مساء غد الخميس، ويستمرّ المعرض لغاية ٢١ أيّار (مايو) الجاري ـــ «غاليري أجيال» (بيروت). للاستعلام: 01/345213
www.agialart.com/exhibition.html




«لا توقظوا المحارب»

شعور العزلة والغياب نفسه ينتابنا أمام غيفارا المسجّى في لوحة «لا توقظوا المحارب» (٢٠٠٩، غير معروضة في «أجيال»). أيقونة غيفارا المحنّط، كما يليق بمومياء الأزمنة الحديثة، مرسوماً بألوان أكريليك فحميّة الطابع. وقد عبرت بجواره فراشة صفراء، طرأت على المشهد بشكل عجائبي، من خارج الكادر، من خارج الأسطورة. إنّه «حضور الغياب»، ما زال أسامة يرصده في أعماله الجديدة.