تمرّ بوسطة مدرسة «الكليّة البطريركيّة»، إلى جانب بوسطة عين الرمّانة. بوسطتان وزمنان. في «جنباً إلى جنب» تسيران في الاتّجاه نفسه لكن الحكاية تنبئنا بأنّ إحداهما ستتوقف عن العمل.مرور بوسطة عين الرمّانة يعلن انتهاء زمن الذهاب إلى المدرسة والطفولة والدخول في مرحلة زمنيّة أخرى، هي مرحلة الحرب. من خلال حادثة بوسطة عين الرمّانة التي اندلعت منها شرارة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حاول حسام البقيلي فهم الوقت الذي عاش طفولته فيه، ثم ذلك الذي أمضيناه في الحرب ضمن معرضه اللافت «بوسطة وأشباهها...» الذي اختتم أخيراً في «الهنغار ــــ أمم للتوثيق والأبحاث».
يقول الفنان: «وحده الوقت حوّل البوسطة إلى رمز». من هنا، يحمّل البقيلي الرمز، عبء الوقت. عند عودته من منفاه الفرنسي إلى بيروت التي تركها طفلاً مع عائلته، بحث أولاً عن بوسطة مدرسته ثم عن بوسطة عين الرّمانة، فعمل على استنساخهما في معرضه. هنا وجد البقيلي نفسه أمام الحجم الطبيعي للأشياء. أمام بوسطة المدرسة، استعاد ذكريات طفولته وأمام «بوسطة الحرب» هاله الوقت الذي استنفدته الحرب من حيواتنا. هكذا أعاد تجسيد بوسطة المدرسة بحجمها الطبيعي عند المدخل، وبحث عن بوسطة عين الرمّانة التي نقلها إلى مكان العرض. وحول الغرفة التي بنيت خصيصاً لها في «الهنغار»، علّق البقيلي «أشباهها».
31 لوحة اشتغل عليها التشكيلي لأوّل مرّة بتقنيّة الطباعة على الشاشة الحريريّة (serigraphie). يعيد البقيلي تصوير البوسطة وما تعنيه له. مرّة تمرّ وتحفر الأرض من تحتها، فهي تركت أثرها في حياة اللّبنانيين، ومرّة أخرى تقابل المدينة، فتنظر إلى بيروت التي تراها هي الأخرى. في المدينة التي تشكّل خلفيّات لوحات البقيلي، رموز بيروتيّة حاضرة. برج المرّ مع «الهوليداي إن» و«الدوم» تكوّن المشهديّة الخلفيّة.
صحيح أنّ الفنان يعود إلى حادثة دمويّة، ذهب ضحيّتها 27 شخصاً، لكنّه يبتعد عن العنف ليمثّل الموت. يلجأ إلى رمز إشارة المرور ليعبّر عنه، إذ تلطّخ صدر «رجل الإشارة الحمراء» ثلاث بيضات. لا شيء بالنسبة إلى هذا الفنّان يمثّل الموت مثل كسر البيضة. في لحظة تنتهي الحياة، وفي لحظة تأمرنا الإشارة الحمراء بالتوقّف. هكذا يمثّل البقيلي الأشخاص الذين وقعوا ضحيّة هذه الحادثة. في «بوسطة وأشباهها...»، يكمل حسام البقيلي بحثه المتواصل في ذاكرته وفي موضوع الحرب الأهليّة. ويتمنى أن يرى اللبنانيّون الحجم الحقيقي للحرب، والزمن الضائع في البوسطة التي عرضها في «الهنغار».