يعكس معرض «زندكي» («حياة» باللغة الفارسية) الذي يستضيفه «مركز بيروت للمعارض» عدداً من الممارسات الأساسية في المدوَّنة المعاصرة للرسم الإيراني. مشاركة 12 فناناً وفنانة تعزز هذا الانعكاس، وتقدم للمتلقّي دلالات متعددة بشأن الحوار التشكيلي الدائر بين التقاليد الراسخة للفن الإيراني والمقترحات الحديثة التي يُنجزها الفنانون الجدد. الأعمال المعروضة تتجاوز فكرة اللوحة المسترخية في مكوّناتها وألوانها. هناك سياسة وفلسفة وأيديولوجيات في أغلب الأعمال المعروضة، وخصوصاً تلك العائدة إلى أسماء ولدت أو أقامت خارج إيران. هنا، نجد مزجاً نقدياً بين جذورٍ تقليدية وأساليب معاصرة. هكذا، يتسرّب التجهيز والبوب آرت والصناعات الحِرفية إلى فن اللوحة... المعرض الذي تنظمه «سوليدير»، بالتعاون مع «روز عيسى برودجكت/ لندن»، يذكّرنا بفنون إيرانية أخرى، وفي طليعتها السينما التي أنجز مخرجوها أفلاماً شديدة المحلية، مصنوعة وفق رؤى أخاذة وقادرة على إبهارنا بمادتها الإنسانية والفلسفية، لا بتقنيات السينما الرائجة وحِيَلها المونتاجية والرقمية. إنها الروح العالمثالثية في لحظة ارتطامها بالتجريب الهائل الذي يحدث في العالم الأول. ارتطامٌ يُترجم بطرق مختلفة.
قد يكون ذلك استثماراً لفنون شعبية كما في تصميمات منير فارمانفارمايان (1923) التي أنجزت أعمالاً تجارية في بداياتها، قبل أن تحقق سمعة مختلفة بعد الثورة الإسلامية 1979 ولجوئها إلى الولايات المتحدة، ثم عودتها إلى طهران. تعرض الفنانة الثمانينية ثلاثة تجهيزات لمرايا فسيفسائية تعكس ألوان العالم الإيراني، ونجد فيها نوعاً من الإعجاز التجريدي العائد إلى جودتها أولاً، وإلى تجهيل المشاهد بتقنية تصميمها. ونعثر على استثمار مماثل في أعمال الخطاط محمد إحصائي (1939) الذي يترجم الطاقة الروحية لمفردة الجلالة إلى لغة بصرية تتحول فيها الحروف إلى تجريد هندسي مستقل.
ويمكن إضافة أعمال ماليهي أفنان (1935) إلى الحيّز ذاته، إذْ تغطي مساحات عملها «الآمال المحجوبة» بشبكات خيطية مينيمالية، تعكس لعبة الخفاء والتجلي، أو ثنائية المعلن والمضمر السائدة في مجتمعات تفرض الحجاب في الفضاء العام. لا يقتصر استثمار الفنون التقليدية على الرواد والمخضرمين، لكنّ ظهورها مختلف في تجارب الأجيال الجديدة. في أعمال فرهاد مشيري (1963)، نجد ميلاً إلى تكريس الثقافة الاستهلاكية من خلال أدواتٍ يستخدمها الباعة في الأسواق الشعبية. «خزان الذكريات» هو عنوان لوحاتٍ تتضمن جراراً وأوعية فخارية مطرّزة بعبارات عامية وأسماء مشروبات شعبية رخيصة.
الحرف التقليدية تحضر أيضاً في أعمال بيتا غيزلايغ (1966) التي تعرض سجادات دائرية مصنوعة من اللبّاد، ومطرزة بفقراتٍ مأخوذة من قصة «ثلاث قطرات من الدم» للكاتب صادق هدايت الذي قضى انتحاراً في باريس. التطريز يصبح فناً شخصياً لدى تراني هيمامي (1960). الكاتبة والمصورة المقيمة في سان فرانسيسكو، تنجز بالخيوط المطرزة مجموعة من الطوابع التذكارية تحمل عناوين «شهداء» و«أساطير» و«أبطال»، ساعيةً إلى تخليد أشخاص مغفلين وأحداث يومية، وتحويلهم إلى أيقونات معاصرة.
وإذا كان مشيري يمتدح الزائل والمهمل في الحياة اليومية، وغيزلايغ تمزج صناعة السجاد بسيرة رائد القصة الإيرانية الحديثة، وهيمامي تبتكر أساطير زائلة، فإن المهارات اليدوية والحرفية تتلاشى تقريباً في التجارب الست الأخرى. في أعمال فرهاد أهرارنيا (1971)، هناك شراسة واضحة في تجاور الصور الفوتوغرافية لنجوم السينما الأميركية مع معالم أثرية، إضافة إلى رسوم رقمية لقمصان طبعت عليها عبارات حبّ لفلسطين وصورة للمسجد الأقصى. أما نجف شكري (1980)، فيدعونا إلى تأمل مجموعة هويات نسائية قديمة تعود إلى فترة الخمسينيات من القرن المنصرم. بحسب سفور صاحبات الصور أو ارتدائهن الحجاب، يمكن معاينة الخيارات المتعددة التي كانت متاحة سابقاً للمرأة الإيرانية (راجع الكادر). أخيراً، لا بد من القول إن ثمة صعوبة في الإحاطة بكل هذه التجارب التي تستحق كل واحدة منها متابعة مستقلة. لكن ما يجمع بينها أنها آتية من جذور واحدة، وتعكس أطيافاً أسلوبية متعددة، وأنها نصوص سياسية ونضالية مدسوسة ببراعة داخل أعمال فنية.

«زندكي» (حياة): حتى 30 أيار (مايو) الحالي ــــ «مركز بيروت للمعارض». للاستعلام: 019980650
www.beirutexhibitioncenter.com




فتّش عن المرأة

في أعمال شادي غديريان (1974) التي يحتضنها معرض «زندكي»، المرأة حاضرة بطريق ذات سمة نضالية وجندرية. ترسم الفنانة النصف العلوي لثماني نساء لا يُرى منهن سوى الحجاب، وتثبّت في مكان الوجه مكواةً أو مكنسة أو طنجرة وغيرها من أدوات عبودية المرأة في المنزل. من جهتها، تعرض المخرجة والرسامة ميترا تبريزيان المقيمة في إنكلترا جداريات فوتوغرافية على شكل محاكمات متخيلة ومركبة من أزمنة ومحطات إيرانية مختلفة، وتعكس معاناة المرأة الإيرانية المعاصرة المختلطة بالسياسة المحلية والضغوط الخارجية. وتنتمي أعمال برستو فوروهار (1962) المقيمة في ألمانيا إلى الحقل نفسه الذي تُقرأ فيه اللوحة أو التجهيز كنص سياسي واحتجاجي، إذْ تستثمر الأشكال التعليمية للإشارات المرورية لفضح الظلم الاجتماعي الواقع على النساء. يبقى أن نشير إلى أعمال فوتوغرافية هاوية للمخرج المعروف عباس كياروستامي (1940)، إضافة إلى عرض فيلمه «شيرين» طوال أيام المعرض.