في مجموعته الشعرية الجديدة «ذلك الحارس، تلك الأصوات» (دار الانتشار العربي)، يعود حمزة عبود (1946) إلى نصه الأساسي الذي انطلق مع باكورته اللافتة «أبدأ من رقم يمشي» (1978)، ثمَّ «الكلام أيضاً» (1982)، قبل أن تنقطع السبل بهذا النصّ، ويتباطأ صاحبه في مواكبة أقرانه الذين بدأت تجاربهم في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وضع الشاعر اللبناني اسمه في السجل الفريد لتلك الحقبة التي شهدت انعطافة نوعية في الشعرية اللبنانية والعربية، لكنّه ـــــ لأسباب عدّة ـــــ افتقد غزارة مجايليه ومواظبتهم على الكتابة والنشر. هكذا فاجأنا عبود برواية «حكايات الشاعر بلوزار» (1989).
ثم انتظرنا عشر سنوات تقريباً كي يعود إلى الشعر بمجموعة ثالثة «ظلال لسيرة التائه» (1991)، وخمس سنوات أخرى كي نقرأ الرابعة «كأنَّني الآن» (1996). ما ظنناه انتظاماً متأخراً في التجربة الشعرية سرعان ما خُرق بعد سنتين بمجموعته القصصية «هدوء حذر».
وها نحن نتلقى مجموعته الشعرية الخامسة بعد عقد ونصف العقد، متسائلين إن كانت محاولة جديدة للانتظام في الكتابة، أم علينا أن نقتنع أخيراً بإطلاق صفة «المقلّ» أو«المتأني» عليه، والاعتراف بتعددية مشاغل الشاعر الذي ـــــ إضافة إلى الرواية والقصة ـــــ أعدّ وقدم «المواقف والمخاطبات» للنفري، وأنجز مختارات بعنوان: «ديوان الشعر اللبناني المعاصر» في مجلدين: واحد بالفصحى وآخر بالعامية. داخل هذه المعطيات الضرورية، نقرأ جديد حمزة عبود الذي ـــــ رغم تشعّب تجربته ـــــ يُبدي جلَداً واضحاً على استئناف عبارته الشعرية المشغولة ببناء توازنات شاقّة بين موضوع القصيدة وطرائق إنجازها. لا يأخذ المعنى هنا من حصة الحساسية الشعرية، ولا تقضم الممارسة جلاء المعنى. التجريب يحدث في طيّات هذه المعادلة المرنة والمفتوحة، مانحاً الشاعر نفوذاً معجمياً واسعاً في كتابة قصيدة قادرة على إقناع القارئ، بصرف النظر إن كانت قصيرة ومكثفة أو مائلة إلى السرد والاستطراد، عائمةً على فلسفة وتأمل شخصي أو متحمسةً لمديح الماضي.
الواقع أن هذا التوصيف النقدي مستلٌّ من مناخ القصائد ذاتها، حيث يتمرأى الشاعر في ماضيه، ويستعيد شذرات من سيرته الشخصية المخلوطة بسيرة حقبة كاملة، فيمتدح يفاعته ومسقط رأسه في قصائد عدّة مثل: «صخرة الميناء» و«المغارة» و«كان البحر شاسعاً»، وتنبعث عزاءاتٌ لطيفة من قصيدة «درج كلية التربية» المهداة إلى ثلة من أصدقاء سنوات الجامعة. هكذا يتوضح للقارئ أنَّ الكتابة تتحول إلى محاولات حثيثة لتخليد الماضي واقتفاء آثاره على الذات.
هناك مطاردة لمحطات وشخوص وذكريات تتسرب بكثافة إلى الشعر الذي يبتكر لها صوراً واستعارت لائقة، حيث يحلو للشاعر أن يقول: «أريد أن أكون أحداً سواي/ أحداً أكثر أو أقلّ مما أراني الآن»، أو أن يكون «ملكَ هذا السراب الذي يتقافز أمامي»، أو يضع نفسه بين أقرانه «نحن الذين نتابع حياتنا/ كمتسلقي الجبال»، أو «تلك التي تسبقنا دائماً/ وندفعها أمامنا كعربة». القصد أن الشاعر، وباستثناء بعض الثقل التقليدي لفكرتي التاريخ والحنين، لا يوقع نصوصه في المجانية والثرثرة الزائدة. يبتكر حمزة عبود بطانةً فلسفية وتأملية لقماشة قصيدته التي لا يريدها أن تحلِّق بجناح الغناء أو التنامي الدرامي فقط. هناك سعي واضح إلى قول ما هو أكثر من الكلمات والصور، وأكثر من العاطفة والبراعة المعجمية. القصيدة هي «هذه السطور التي لا ترسو على حال/ هذه الكلمات التي تجفلُ كسنجاب على شفتيّ». بحسب هذا التصور، تصبح ذائقة الشاعر جزءاً من مناخها ومعناها، ويتحول التفكير بالكتابة إلى ممارسة أساسية داخل الكتابة.
لا يخفي عبود هذه الثنائية في مزاجه الشعري. كأنّه يكشف لنا قراءته لشعره إلى جانب كتابته لهذا الشعر. في قصيدة بعنوان «محاولة في القصيدة»، يترجم ذلك بوضوح وعذوبة في آن واحد: «ماذا إذا لم تكن هذه القصيدة/ أكثر من خطأ عادي في أحد أيامي العادية/ في مدينة كسائر المدن؟/ وماذا إذا لم تكن/ أكثر من عبارة في حديث عابر/ عن قميص الدرّاقة أو كسل الوردة/ أو غباء الموت؟/ .../ وماذا إذا لم تكن هذه قصيدةً/ وكنتُ لا أعرف/ وقلت: نكتبُ لأننا لا نعرفُ/ ولأن القصيدة أقلُّ نصاعةً/ وأنها وحيدةٌ بلا حارس/ أو دليلْ».



خفوت

هناك خفوتٌ محبّب يتنزّه في أغلب قصائد «ذلك الحارس، تلك الأصوات». خفوتٌ مصنوع من تأمل الحياة وإبطاء حركتها وتأبيد لحظاتها الآفلة: «هنا تحت الظلال الشاحبة لنخيل الشاطئ/ خلف المباني الصاغرة أمام الغروب/ وراء تلك الأصوات الخافتة لرياح الخريف/ أستطيع أن أُحكمَ انتظاري صيادَ أحلام يتعقبُ/ المواعيد الزائفة في كتاب البحر ورسائل الموج». أحياناً يشجِّع التأمل الشاعر على تخطّي الزمن والعبور إلى حياة لم يعشها بعد: «تحركين ضوءاً أمام عيني/ كأن الحياة تبدأ/ كل يوم/ من الخطوة التالية/ ومن شقاء/ لم أطأهُ بعد». أما قصيدة «الدوري»، فهي تختزل حيرة حمزة عبود وتأملاته في المجموعة كلها: «لم أعدْ آمنُ/ شجرةً/ ولا شرفةً/ جئتُ من حقلِ لا أحد/ وسأعود».