صادق جلال العظم من أكثر الباحثين العرب إثارةً للجدل. قلّة من مفكري العالم العربي تصدّوا للموروثات الدينية والسياسية بهذا الزخم. العظم المنتمي إلى سرب العقلانيين، كان ولا يزال في طليعة هؤلاء الكبار، أي أولئك الذين عاصروا الانكسارات وانتقدوها. عند السادسة مساء اليوم، سيطرح العظم إشكاليّة «الإسلام والحداثة» على بساط البحث في لقاء يجمعه بأهل الصحافة والفكر في فندق «البريستول» (بيروت).
كما يشارك في ندوة تستضيفها جامعة «البلمند» (شمال لبنان) في 17 الجاري، ليحكي عن «تركيا والإسلام الجديد». فرصة لنستعيد منجزاً فكرياً لمثقف يساري قال مرةً «إنّني شخص أممي، بالمعنى اليوناني الأصلي للعبارة، كما قصده الفيلسوف القديم ديوجينوس، أي المواطن العالمي». عبارة يوجز بها مخاض التراكم المعرفي الذي رسم رؤيته لذاته وللعالم. وعلى إيقاع الاقتداء بالحكمة السقراطية «الحياة غير المفحوصة جيداً غير
جديرة بأن تعاش أصلاً»، نسج مقولاته النقدية، فحفر عميقاً في أسباب نكسة 1967، مفضّلاً إدراجها تحت مصطلح «الهزيمة». وأطلق مقولته الشهيرة «إنّ مجرّد استخدامنا لمصطلح «النكسة» في الإشارة إلى حرب حزيران ونتائجها، ينطوي على الكثير من منطق التبرير والتهرب من المسؤوليات والتبعات». في دمشق، أبصر ابن العائلة الأرستقراطية النور عام 1934. ومنذ أن فهم معاني الحياة، أدرك أنّ المعركة تقتضي السجال والقطع مع التقليد. مثل مجايليه، أعجبته طروحات أنطون سعادة وجمال عبد الناصر، لكنّ ماركسيته أتت إليه من بوابة المعرفة بعدما كثّف بحثه عنها. من جامعة «يال» في الولايات المتحدة، نال الدكتوراه في الفلسفة، ولم تمنعه أطروحته عن كانط من النظر إلى العالم من زوايا متعدّدة. هكذا، بدأت مطالعاته في الآداب السياسية، وجاء «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968) كالصاعقة. هزيمة العرب عنده، تعود إلى تخلفهم العلمي مقارنةً بإسرائيل، ولا يمكن فهم ما حدث إلّا من خلال قراءة الواقع، وليس تحميل الآخرين المسؤولية.
تميّز بعقله السجالي الذي تمظهر عبر أشهر كتبه «نقد الفكر الديني» (1969). دافع عن إبليس، منتقداً الموقف القرآني منه، ما أدّى إلى طرده من «الجامعة الأميركية في بيروت» التي درَّس فيها الفلسفة بين 1963و1968. حوكم وصدر الحكم بردّ الدعوى عام 1970. لكنّه أكمل مسيرته الأكاديمية، فتنقّل بين جامعات الأردن ودمشق وألمانيا والولايات المتحدة. السجال البنّاء عند العظم تابع محطاته، ولعلّ كتابه «دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية»، يمثّل الدليل الثاني على شغفه العلمي/ الجدالي. انتقد هذه المرة قادة الفصائل الفلسطينية، ما أدّى إلى فصله من «مركز الأبحاث الفلسطينية» الذي شارك في تأسيسه بعد تجربة التكفير على خلفية «مأساة إبليس». انتصر العظم لسلمان رشدي صاحب «آيات شيطانية» لا من موقع التبنّي، بل رفضاً للتكبيل والتحريم. وضع من وحي القضيّة كتابه المرجعي «ذهنية التحريم»، وما لبث أن ألحقه بآخر هو «ما بعد ذهنية التحريم».
لم يكن العظم من دعاة التسليم بالخلاصات الفكرية النهائية. شنّ في «الاستشراق والاستشراق معكوساً» (1981) معركة أخرى، على أطروحة إدوار سعيد الشهيرة «الاستشراق». ورأى أنّها تصب في خانة التيارات السلفية، فرفض ازدواجية الشرق والغرب، والتدبير التآمري. ورغم ماركسيته، لم يخُض في علاقات الإنتاج، وتعقُّب المفاهيم الاقتصادية التي صاغها الماركسيون. الثورة الماركسية تبدأ بنقد، بل بتفكيك الذهنيات الماورائية. وعلى خطى كانط، رأى أنّ أمّ المعارك تبدأ بالدين، عبر تحريره من الوعي الأسطوري الذي ينعكس بدوره على الفعل المجتمعي والسياسي.
هل يمكن الإسلامَ أن ينسجم مع الحداثة؟ ومع الديموقراطية؟ ومع العلمانية؟ أسئلة طرحها غربيون كثر على العظم خلال زيارته العلمية إلى الولايات المتحدة وأوروبا (1988 ــــ 1993). ورغم سطوة ما يسميه أنموذج Homo Islamicus أي «الإنسان الإسلامي الماهوي» على اللاوعي السياسي الغربي، حاول صاحب «زيارة السادات وبؤس السلام العادل» (1978) الإجابة عن الأسئلة المطروحة بصياغة إشكاليات بديلة أدرجها تحت مفهوم «ديالكتيك المواجهة» بين العقائد والواقع. وخلص إلى أنّ الإسلام شهد منذ بدايته هذا التجاذب بين العقيدة وحركية التاريخ... وما مرحلة النهضة العربية وعصر التنوير والدولة الحديثة والإسلام المستنير، إلا دليل على حضور سياقات الحداثة في مجال ما زال حتى اللحظة رهن التجاذب بين الأصوليين والحداثويين.
منذ الدفاع عن إبليس، لم يتعب هذا المفكّر السجالي من تحريك الرمال الساكنة، هو المهجوس بالمنهج الديالكتيكي. وإطلالته اليوم في بيروت، ثم في البلمند، على وقع الانتفاضة السوريّة، من المتوقّع أن تكون من علامات المرحلة وإضاءاتها.



«الإسلام والحداثة»: 6:00 مساء اليوم ـــ «البريستول» (بيروت)
«تركيا والإسلام الجديد»: 12:30 ظهراً في 17 الجاري ــ «جامعة البلمند» (شمال لبنان). 06/930266