المعرض الذي تحتضنه حتّى مساء اليوم صالة «نهى الراضي» في «مسرح المدينة» البيروتي، هو قبل كل شيء اعلان الولادة الرسميّة لفنّانة ذات مسار غير اعتيادي. عرفنا سعاد أمين منشغلة في قضايا أدبية وفكريّة واجتماعيّة شتّى، حاضرة من خلال حلقاتها الثقافيّة، ونضالها الميداني في المخيّمات الفلسطينيّة... فإذا بنا نقف وجهاً لوجه أمام تجربة تشكيليّة، بالمعنى الكامل للكلمة. أمام موهبة تفتّحت بمساعدة المصادفات، ونمت في الظلّ، وتبلورت بقوّة الاصرار، ونضجت تحت ضربات الحياة. ذلك أن الجرح الفلسطيني الذي يسكن هذه السيّدة السريّة، الماهرة في اخفاء الضعف والهشاشة، والحازمة في مواجهة التحديات، جعلها مشرّعة على ترانيم الأسى والفقد والغياب.
قد اختارت أن تعرض لنا محطّات أساسيّة من مسارها القصير نسبياً، فإذا بالمعرض البانورامي الذي يقرأ من عنوانه «سعاد أمين 2000 ــــ 2010» يقام خارج الغاليريهات، إنما بصرامة تقنية ومقاربة مرهفة في الترتيب والتعليق والتقديم (بصمات المعمارة والأكاديميّة هويدا الحارثي واضحة على الخيارات التنسيقيّة)... ليحكي لنا قصّة استثنائيّة مع الفنّ، إنما أيضاً وأساساً مع الحزن. حزن امرأة تريد أن «تصعد كي ترى حيفا وتقفز». حزن وجودي وفلسفي أيضاً، حزن الانفلات الصعب والصراخ المستحيل. 
صحيح أن الجمهور التقى الفنانة الفلسطينيّة عبر مشاركات في «صالون الخريف» الذي ينظّمه «متحف سرسق»، لكنّ سعاد أمين (الصورة لحسام مشيمش) تقف كاملة أمامنا هذه المرّة، منذ «جنون (ها)» التأسيسي (٢٠٠٠)، وحتّى طيف جوزف سماحة الذي يحوم في الجوار فراغاً نورانيّاً (٢٠٠٨). ترصد عالماً يتصدّع وأطياف تعوم في الهلام، في اللوحات الأكريليك الصغيرة على ورق التي رسمت بعد ١١ سبتمبر، ثم في الأعمال الكبرى، وكلّها أكريليك على قماش، التي ترجّع أصداء مدن بعيدة ممنوعة، مختبئة في وديان الذاكرة، حلف جدار لئيم.  
يهيم المتفرّج «في حضرة الغياب» (٢١٥ x ١٥٠٠ ـــ ٤ x ٦ مربعات، 2010)، حيث تتالى المشاهد «الصامتة» وتتجاور: شواطئ مهجورة، وأوطان معلّقة، وشموس حبيسة، وضباب مستعار من الرومانسيين الألمان. تنحو لوحة سعاد أمين إلى تعبيريّة مجرّدة، وتقوم على التقطيع الهندسي غالباً. تعكس أصداء قصائد ونصوص قديمة من غسان كنفاني إلى محمود درويش، وتحتضن انفجارات لونيّة مدهشة كما الأحمر في «نزف الحبيب شقائق النعمان» (١١٠ x ١٠٠ سنتم، 2010)، وتتشكّل من تراكم طبقات الصباغ التي صارت جغرافيا. ضربات الفرشاة تترك أخاديداً وندوباً، ثم تجعل من انسياب اللون، وتدرّجات البيج والوردي والرمادي والنيلي والأصفر والأزرق والأخضر والبنّي والبيج... أفقاً أو بحراً، جبالاً وأودية وصخوراً وبشراً، مدناً (وحيوات) يبتلعها النسيان. 



«سعاد أمين ٢٠٠٠ ـــ ٢٠١٠»: حتى مساء اليوم ـــ صالة نهى الراضي في «مسرح المدينة» (الحمرا/ بيروت). للاستعلام: 01/753010

المقال نسخة خاصة بموقع الأخبار