الموحد، الكاشف، العاشق، المتصوف الأكبري، الحاضر الغائب... كثيفة هي الدلالات التي يمكن استنباطها من ترحال محيي الدين ابن عربي (1165ـــــ1240) باعتبار، ذاك التائه العائد إلى الحضرة الإلهية. من كشف إلى كشف، يُحيلك «صوفي المرأة» على عوالم أخرى، عمادها نقطة البدء وعودة إليها. قلّة من أعلام العرب حظوا بهذا الكمّ من الاهتمام على مرّ العصور... الشيخ الأكبر، كان أولهم. وعلى قدر صعوبة معادلة أبو حيّان التوحيدي «الإنسان أشكل عليه الإنسان»، تكثر الإطلالات على موقع الإنسان المعاصر منها، ما يأخذنا إلى إشكالية أخرى: أيهما أجدى: السلوك المعرفي التوحيدي أم الفيزياء الحديثة؟ في دراسته «ابن العربي المسافر العائد» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـــــ لبنان و«منشورات الاختلاف»، الجزائر) يسعى الكاتب الجزائري ساعد خميسي إلى الإجابة عن معانٍ دالّة غير مباشرة، غايتها البحث مع ابن عربي، عن تجليات التصوف في طبقاته المختلفة. هكذا، قدم مادة حدد فيها أبرز نظريات علم الكلام، ورمزية السفر، ومنزلة الأنثى، وأهمية الخيال...
لا يزال ابن عربي حتى اللحظة، محور اهتمام الدراسات العربية والغربية. ذاك المتصوف، المحاط بالخصوم، وفي مقدمهم شيخ الإسلام ابن تيمية، انتصر له أولئك الذين ساروا على دربه، من تلامذة، ومستشرقين. مسيحي من دون مسيح، هكذا نظر إليه المستشرق الإسباني ميغيل آسين بلاثيوس، صاحب «الإسلام المسيحي»، لكن راهنية الشيخ الأكبر في الغرب، تأتي من سؤال الأخير عن مستقبله الديني، وحاجته إلى علم الباطن. يستشهد خميسي في هذا الإطار بأستاذ الدراسات الصوفية في «جامعة بروفانس» دوني غريل، والراحل نصر حامد أبو زيد صاحب «هكذا تكلم ابن عربي». ثمّ يدفعنا لنسأل: هل فقدت المسيحية الغربية روحها؟
ثنائية النور والكشف، مثّلت الطريق المستقيم، لأضواء التوحيد عند ابن عربي. موقفه من علم الكلام دشّنه على خطى الغزالي، لا المعتزلة. وعلى هذا، بحث في أدلة وجود الله، والجبر/ الاختيار، والعدل الإلهي، ونفي الشريك عن الله، والصفات السبعية للحضرة الإلهية. استند ابن عربي إلى علم الكلام السني الأشعري، القائم على قوة حجية النص وأفضليته على الحجة العقلية، من دون أن ينادي بالقراءة الحرفية، وكان همه الدفاع عن عقيدة «أهل السلف» في وجه أهل البدع والمشككين، كما يلفت الكاتب.
في ميدان علم الكلام، الذي اقترن بعلم التوحيد، شغل ابن عربي القلق، بالمعنى المعرفي. التوحيد عنده، نابع من الوحدة «والوحدة صفة الحق أي العقل الأول عند الفلاسفة. أما الوحدانية، فقيام الوحدة بالواحد، بحيث إنّها لا تعقل إلا بقيامها بالواحد».
رد في كتابه «الفتوحات المكية» على القائلين بالتثليث المسيحي، والتجسيم اليهودي، وعلى «غلاة التنزيه» من أهل العدل التوحيد. الرمزية، بكلّ ما تحويه من أبعاد، طغت على نصوص ابن عربي. رمزية رأى أنّها أشدّ قدرة على التعبير، فأسقط عليها شطحاته الصوفية في سَفَره الدائري المستدام، من نور إلى نور. العارفون هم الذين يمتلكون مفاتيح المعرفة، وهؤلاء لا بدّ لهم من السير على طريق الأشواك، والتنقل من حال إلى حال، بغية الوصول إلى معانقة المعشوق ـــــ الله معشوق بلغة المتصوفة ـــــ والفناء به.
نصوص ابن عربي الرمزية اكتست رونقاً خاصاً، وصارت أقرب إلى قلب دارسيه في الشرق والغرب. وللسفر رمزيته أيضاً.
وفي هذا السياق يفكّك الكاتب المعاني التي وضعها الشيخ الأكبر، في ما يتعلق بثنائية: الإلهي والكوني. «السفر من عند الله وسفر إليه وسفر فيه»، هكذا ينادي ابن عربي بحركة دائرية تبدأ بالولادة ولا تنتهي مع الموت. وعلى هذا يمكن أن نفهم مغزى الدائرة/ النون عند المتصوفة التي تشير في الدرجة الأولى، إلى مسلك الكشف، التأملي/ التوحيدي الذي لا ينفصل فيه الحق ـــــ أو العقل الأرفع ـــــ عن صاحب التجربة، إلى حدود الفناء بالذات الإلهية.
للأنثى دلالات صوفية لا تبتعد كثيراً عن الحب الإلهي. الأنوثة عند ابن عربي أصل الوحدة، المكمّلة للكون ولتكامل مكوّناته. لذا قارن بين عشق الرجل لأنثاه من زاوية حنين الجزء إلى الأصل، وبين حنين العقل إلى العقل الأول، وهذا ما أشار إليه الفلاسفة بنظرية الفيض التي تتّخذ عند المتصوفين أشكالاً متعدّدة، وضعها المستشرق الفرنسي هنري كوربان تحت مسمى «جدلية الحب». لم ينظر ابن عربي إلى آدماء ـــــ أنثى آدم ـــــ كما ينوّه خميسي، من منظار روحي/ عرفاني فقط. للتواصل الجسدي إيقاعه، وقمة التجلي عند الشيخ الأكبر «تكون في شدة الالتحام وفي صلة النكاح. لهذا لا يجوز الاستهانة بعملية الجماع ولا يجوز نزع الروح منها». فما هو ردّ بعض فقهاء الإسلام الذين حوّلوا جسد المرأة إلى متاع وبضاعة؟
حاول ساعد خميسي الإحاطة بمجمل أفكار ابن عربي، بدءاً من التوحيد وصولاً إلى فلسفة الخيال، وقدم مادة تمهيدية لكل الذين يريدون التعرف على من لقّبه الفيلسوف الإشراقي شهاب الدين عمر السهرودي بـ «بحر الحقائق».