لا أحد ينكر أنّ «كان» أهم مكان يمكن محبي السينما أن يقصدوه في هذا الوقت من السنة. الكل هنا: سينمائيو ونقاد العالم، وطاقم هوليوود اللامع. رجال المال والسياسة والنجوم يملأون المدينة، فيما تعقد في كواليس الكروازيت صفقات الإنتاج الكبيرة. أبرز أسماء السينما الفنية وسينما المؤلف، حاضرة هنا وسط تنافس شديد مع المهرجانات الأخرى في استقطاب الأفلام الجديدة. وكانت صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسيّة قد تساءلت على غلافها ما إذا كانت هذه النسخة من المهرجان هي الأخيرة، خصوصاً مع انتشار تكنولوجيا المشاهدة الجديدة. ومع أنّ هذا التساؤل مبكر جداً، فإنّه يشير إلى مدى القلق الذي تثيره هذه التكنولوجيا على ارتياد السينما التقليدية، رغم احتفاء منظمي المهرجان بهذه التطورات في بيانهم الافتتاحي. ويبدو أن الدورة الـ64 قد أثبتت بنيتها السينمائية والجدلية باكراً. إلى جانب أعمال أبرز السينمائيين العالميين، حجزت السياسة مقاعد عدة لها، منذ أن أعلنت مصر ضيفة شرف المهرجان: بعد الإعلان عن التظاهرة التكريمية التي ستقام الأربعاء، تفجّر الجدل بسبب وجود رموز من نظام مبارك المخلوع في التظاهرة بينهم سفير مصر في باريس ناصر كامل («الأخبار»، 14 أيار/ مايو 2011).
ضجة أخرى أثيرت بسبب وثائقي «قتل غير مشروع» Unlawful Killing الذي يحقّق في مقتل الأميرة ديانا. الشريط الذي أخرجه البريطاني كيث آلن، وأسهم في إنتاجه محمد الفايد، يتّهم العائلة المالكة بالتخطيط لمقتل «ليدي دي» ويثير مسألة تستر النظام القضائي البريطاني على المؤامرة. المخرج الإيطالي الكبير بيرناردو بيرتولوتشي الذي كُرِّم في هذه الدورة بسعفة فخرية، دخل أيضاً على الخط السياسي، بإهداء سعفته الفخرية إلى مناهضي بيرلوسكوني.
أما روبير غيديغيان المشارك ضمن تظاهرة «نظرة ما» بفيلم «ثلوج كيليماندجارو»، فقد أعلن أنه لن يشاهد فيلم وودي آلن «منتصف الليل في باريس». أراد المخرج الذي يعدّ من أهمّ رموز الواقعيّة الجديدة في فرنسا، أن يعلن احتجاجاً سياسياً على مشاركة كارلا بروني في الشريط... وبالتأكيد، فإنّ تسلل جعفر بناهي ومحمد رسولوف بفيلمين جديدين إلى المهرجان، مثّل تعزيزاً لوقفة سينمائيي العالم تضامناً مع المخرجين الإيرانيين اللذين يعانيان مشاكل قضائية وتضييقاً من النظام في طهران. أما على صعيد الحصيلة الأوليّة، فالأفلام التي عرضت حتّى الآن تثير نوعاً من التردد النقدي. ولا يبدو أن هناك عملاً أثار الإجماع الإيجابي حتى الآن.
فيلم الافتتاح «منتصف الليل في باريس» للنيويوركي العجوز وودي آلن لفت النقاد. لكن يبدو أن هناك نوعاً من الاتفاق على كون الفيلم مناسباً إلى حد ما للافتتاح، مع الأخذ في الحسبان جمالية الصورة السينمائية التي يقف وراءها المصور الفرنسي الإيراني الشهير داريوس خوندجي. الشريط يروي رحلة كاتب (أوين ويلسون) وخطيبته وعائلتها إلى باريس التي سرعان ما تتحول إلى رحلة حميمة إلى الماضي.
المخرج الأميركي غس فان سانت ـــــ أحد مدللي المهرجان ـــــ يواصل إحدى ثيماته المفضلة في تتبع حياة المراهقين المضطربة بأسلوب مغاير لما تقوم به هوليوود. فيلمه «توتّر» Restless يروي علاقة تربط أنابيل (ميا فاسيكوفسكا) التي تعاني ورماً خبيثاً، وإينوخ (هنري هوبر). الفيلم لقي أيضاً تفاوتاً نقدياً، وارتكزت الانتقادات على ضعف ترابط الشخصيات وضعف الحبكة.
وسط التخبط النقدي الهائل الذي شهدته العروض السينمائية في أيام المهرجان الأولى، ما زالت الأنظار متجهة إلى أفلام مقبلة، أهمها «شجرة الحياة» لتيرينس مالك الذي أنهك العالم في انتظاره، و«الجلد الذي أسكنه» لبيدرو ألمودوفار، و«اكتئاب» للارس فون تراير، وLe Havre لأكي كوريسماكي، و«صبي الدراجة» للأخوين داردين... إضافة إلى «هذا ليس فيلماً» لجعفر بناهي. على ما يبدو، فإن دورة المهرجان هذا العام ليست هادئة أبداً.