بغداد | عاد بعد طول غياب، طفل محلّة النوّاب في كاظميّة بغداد، مُعانداً تلك الرحلة الشاقّة التي لازمته منذ عام 1969. ابن الأسرة الثريّة الذي سجن أكثر من مرّة، وطورد بين حين وحين، حلّ في بغداد اليوم، يتجوّل فيها مرحاً، لكن بخطوات أثقلتها سنوات الترحال، وهموم العراق وويلاته. إنّه مظفر النوّاب، شاعر الجماهير والمعارضة السياسية الذي تقصده وفود العراقيين اليوم مرحبةً من المحافظات كلها. تمحورت قصيدته حول حقيقة مفادها أنّ «إرادة الشعوبِ تكرهُ المزاح»، وصار شعره صرخة احتجاج، وصار هو رمزاً عراقيّاً بامتياز.
يعود النوّاب إلى بلاد الرافدين لأن «الوطن على مفترق الطرقات»، أو كما قال في قصيدته العاميّة الشهيرة «للريل وحمد»: «عودتني، العيد يعني الناس... ووياهم أعيد». هي عودة إلى المنبت الأوّل، لكنّ بعض المثقفين العراقيين (في الخارج خصوصاً) حاول اختصار هذا الحدث باستقبال الرئيس العراقيّ جلال طالباني للشاعر في المطار. يعلّق رئيس «بيت الشعر» العراقيّ الشاعر أحمد عبد الحسين على ذلك قائلاً: «النوّاب وطالباني صديقان منذ عقود، ولا ضير في أن يستقبله، خصوصاً أنّ النوّاب لا يمكن أن يدخل تحت عباءة أحد. طالباني ومثله كلّ الرؤساء العرب، يعرفون أنّ النوّاب هو الشاعر الحانق على السياسيّ بامتياز». ويستذكر عبد الحسين كيف «هجا النوّاب الرئيس الراحل حافظ الأسد وأركان حكمه حين كان مقيماً في سوريا»، مؤكّداً استبعاده أن يقدّم «النوّاب للطالباني أو لغيره من السياسيّين ما يجمّل صورتهم. إنّه مثال للشاعر الأكبر من السياسيّ». ويرى رئيس «بيت الشعر» أنّ عودة النوّاب إلى بلاده كانت حتميّة، لأنّ «حكمة العودة إلى النقطة الأولى سارية منذ زمن جلجامش وإلى يومنا، ولأنّ هذه الرحلة الأسطوريّة لا تليق إلا بالشعراء».
خلال الأيّام الماضية، ازدانت شوارع بغداد بلافتات ترحب بصاحب «تلّ الزعتر». أمّا هو فراح يطوف بين شارع المتنبي ومقهى الشاهبندر وأزقّة الكاظمية حيث مسكن عائلته، ومرقد الإمام الكاظم، وشارع أبي نؤاس، ومبنى «الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق». وفي هذه الأثناء، كان السياسيّون يتسابقون إلى تقبيل جبين الشاعر، العلمانيّ منهم والإسلاميّ، المُقاتل والمهادن. ويجد رئيس «الاتحاد العام للأدباء والكتّاب» الناقد فاضل ثامر في عودة النواب «دعماً لتوجهات بناء ثقافة ديموقراطيّة بعيدة عن الطائفيّة والعنف والكراهيّة». فالشاعر المُحدِّث في مزاوجته بين الأصول الفطريّة والتلقائيّة للشعر الشعبي، وبين قيم الحداثة الشعريّة، هو «الصوت العالي والنظيف في الثقافة العراقيّة، والعرّاف الوحيد الذي صدقت نبوءته بسقوط أنظمة الفساد العربيّ، حين قال «...لا أستثني منهم أحداً»».
قبل أكثر من عامين، أطلقت مجموعة مثقفين دعوةً إلى المطالبة بعودة النواب إلى بلده. يومها قال مقرّبون منه إنَّ النواب لا يحتاج إلى دعوة، وإنّه سيقرر العودة في الوقت المناسب. وقد سبقت هذه الخطوة دعوته إلى تظاهرة ثقافيّة في كردستان العراق، فأجاب معتذراً عن عدم تلبيتها قائلاً: «خرجت من بغداد ولا بدّ أن أعود إليها أولاً».
الشاعر والصحافيّ كاظم غيلان، صديق النوّاب الذي رافقه طوال الأيام الماضية، يسرّ لـ«الأخبار» بأنّ المشهد الوحيد الذي جعل دموع النواب تنهمر، هو نهر دجلة حين أطلّ عليه من نافذة السيارة. يخبرنا غيلان أن الشاعر راح يبحث في بغداد عن بيت للعائلة في منطقة كرادة مريم، حيث قضى ليلته الأخيرة قبل المنفى، ليفاجأ بأنّه تحوّل إلى حديقة عامّة.
أعوام الغياب بما حملته من فقد ورحيل، لم تمنع الشاعر من لقاء بعض أصدقائه القدامى مثل المسرحيّ طه سالم، والنحّات عبد الجبار البناء. وإذا كان النوّاب، منذ عودته، قد تحاشى التكلُّم في السياسة العراقيّة، فقد يكون أهمّ ما أدلى به من على منصة «الاتحاد العام للأدباء...»: «وجودي في هذا المبنى أشرف من وجودي في أي مكان آخر في الدول العربيّة التي مكثت فيها». من المبكّر أيضاً القول إذا كانت زيارة مديدة أم عودة نهائيّة؟