كان | ... وأعلنها روبيرت دي نيرو: «السعفة الذهبية» لتيرنس مالك عن فيلمه «شجرة الحياة»! بعد عقود من الغياب، عاد السينمائي الأميركي ذو الأصل اللبناني ليطلق العنان لمخيّلته الخصبة، كاسراً كلّ كليشيهات السرد السينمائي التقليدي، وينتزع سعفةً ذهبيّة مؤجّلة منذ عقود. في «شجرة الحياة» الذي توِّج في غياب مخرجه، يقدّم مالك عمله الأكثر جنوناً وغموضاً وتألقاً.
يعود بنا المعلم الأميركي إلى بداية الخليقة ليخصّص 11 دقيقة للانفجار الكبير، لحظة نشأة الكون. ينطلق الفيلم من قصة والدين تختلف نظرتهما إلى الأسلوب الأمثل لتربية أبنائهما الثلاثة، لكن سرعان ما تتحول هذه القصة إلى مجرد خلفية لمنحى تأملي، يرتمي من دون أيّ صمام أمان في سينما تجريبية، تسائل ماهية الوجود، وأسرار الخلق، والحياة، والموت.
صاحب «حصاد السماء» (1978) و«الخط الأحمر» (1998)، يذكّر فيلمه الجديد بأعمال جان لوك غودار، وسينماه «المفكّرة» التي خرجت من معطف «الموجة الجديدة» الفرنسية، كما أنّ تلاعب تيرنس مالك المحكم بالشخوص والأزمنة (يؤدّي شون بن دور ابن براد بيت، الذي يعاصر الديناصورات في بعض المشاهد)، جعل النقاد يصفونه بالفيلم الأكثر غموضاً في تاريخ الكروازيت بعد «طريق مولهولاند» لدايفيد لينش (أفضل إخراج ـــــ «كان» 2001).
فوز مالك بـ «السعفة الذهبيّة» كان متوقعاً منذ البداية، بعدما اشتدّت المنافسة بينه وبين الأخوين داردين عن فيلمهما «صبي الدراجة»، لكنّ الثنائي البلجيكي، الذي سبق أن فاز مرّتين بالسعفة الذهبيّة، لم يعد هذه المرّة خالي الوفاض، بل تقاسم «الجائزة الكبرى» مع السينمائي التركي نوري بيلج سيلان عن شريطه «حدث ذات مرة في الأناضول».
أما المفاجأة الأبرز هذا العام، فهي فوز الممثلة الأميركية كيرستن دانست بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في شريط «ميلانخوليا» (اكتئاب) رغم اعتبار المهرجان مخرجه الدنماركي لارس فون تراير شخصاًَ غير مرغوب فيه («الأخبار»، 20 أيار/ مايو 2011)، كما فاز المخرج والسيناريست الإسرائيلي جوزف سيدار بجائزة أفضل سيناريو عن شريطه «هوامش».
في كل دورة من «كان»، تبرز تيمة غالبة تتكرّر في أكثر من فيلم، وفق مقاربات وقراءات ورؤى إخراجية مختلفة. هذا لا يعكس جديد السينما العالمية وتوجهاتها فحسب، بل يجعل أيضاً من الأفلام المعروضة على الكروازيت نوعاً من البارومتر الذي يرصد انشغالات الراهن، وهواجس المرحلة الحالية من عالمنا المعاصر. التيمة الغالبة هذا العام على صعيد مضامين الأفلام تتمثل في إشكالات المراهقة، وما يرافقها من قلق وجودي يعصف بالمراهقين وبآبائهم وأمهاتهم. برز ذلك في «صبي الدراجة» للأخوين داردين، الذي يعدّ أكثر أعمال التوأم البلجيكي نضجاً واكتمالاً. سحَر العمل الكروازيت بخطابه الإنساني المؤثر الذي أعاد إلى الأذهان رائعتهما «روزيتا» (السعفة الذهبية ـــــ 1999). ويروي الشريط قصة صبي مراهق اسمه «سيريل» (توما دوريه) يتخلى عنه والده (جيريمي رونييه) في ملجأ أيتام، ويسعى طوال الفيلم إلى استعادة الأب المفقود... ثم يتعلق بسيدة تدعى سامانتا (سيسيل دو فرانس) يتعرف إليها مصادفةً، وتسهم في إنقاذه من مخاطر الانحراف.
تيمة المراهقة المهمّشة والمهدّدة بالانحراف، نجدها أيضاً في فيلم «بوليس» للفرنسية مايوان، التي أهدت المهرجان إحدى أكبر مفاجآته من خلال الأداء المبهر لنجم الرّاب الفرنسي جوي ستار، وحاز عملها جائزة لجنة التحكيم. جسّد جوي ستار دوراً إنسانياً مؤثراً لضابط في «شرطة القاصرين» يسعى إلى إنقاذ مجموعة من المراهقين المنحرفين من براثن الشارع، لكن جائزة أفضل ممثل، التي رُشّح لها، أفلتت منه، لتذهب إلى مواطنه جان دوجاردين عن أدائه في فيلم «الفنان» للفرنسي ميشال هازانافيسيوس، الذي يرصدُ اللحظة المفصلية التي واكبت الانتقال من السينما الصامتة إلى الناطقة في هوليوود الثلاثينيات.
بقية أعمال «الكبار» في هذه الدورة لم تخيّب الآمال، لكنّها لم تتوّج بالجوائز. أكثرها تجديداً شريط بيدرو ألمودوفار «الجلد الذي أسكنه». أما المعلم الإيطالي ناني موريتي، فقد منح النجم الكبير ميشال بيكولي أحد أجمل أدواره. يدور فيلم «لدينا بابا» حول شخصية كاردينال ينتخبه أقرانه لمنصب بابا الفاتيكان... لكن الشك والخوف يستبدّان به، ما يدفع به إلى التنازل عن البابوية. وقد انتُقد الفيلم في إيطاليا، قبل عرضه، لأن المخرج اليساري المشاكس قرّر هنا إدخال محلل نفسي إلى مبنى الفاتيكان لمعالجة البابا، الأمر الذي رأى فيه بعضهم استفزازاً لمشاعر المؤمنين، لكن موريتي فاجأ جمهوره، حين قال إن الفيلم يسخر من التحليل النفسي لا من البابا.
سينمائي مجنون آخر حيّر الكروازيت بقدر ما أبهرها، وهو المعلم الفنلندي آكي كوريسماكي، الذي قدّم في جديده Le havre قصة إنسانيّة مؤثِّرة عن كاتب بوهيمي اسمه مارسيل ماركس، صار ماسح أحذية، يجوب العالم في رحلة تيه طويلة تنتهي به إلى ميناء معروف شمال فرنسا. هناك يتعرف إلى مراهق نازح من أفريقيا، مهاجر سرّي هارب من الشرطة الفرنسية، ويسعى بكل الوسائل إلى مساعدته، لكن هذا المنحى النضالي لم يبعد كوريسماكي عن عوالم الـ Burlesque، وروح الفكاهة القاتمة المستوحاة، في كل أعماله، من عوالم المهمّشين والمسحوقين.
مخرج كبير آخر عاد إلى الكروازيت بعد غياب امتدَّ ربع قرن، وهو الفرنسي ألان كافالييه، الذي تعود آخر مشاركة له إلى عام 1986، حين قدم آنذاك رائعة «تيريز». وقد عاد هذه السنة بفيلم Pater (فانسان ليندون في أحد أجمل أدواره)، الذي قدّم من خلاله مرافعة مدوية ضد الساركوزية، تتجاوز في أهميتها ما حاول كزافييه دورانجيه تقديمه عن الرئيس نفسه، في «الاستيلاء على السلطة».
تفادى ألان كافالييه الشخصنة، ليلقي على فرنسا ساركوزي، نظرةً تشريحية ترصد الصلات المشبوهة بين عالم الأعمال والسياسة، من خلال شخصية رئيس حكومة يحاول سن تشريعات أكثر إنصافاً لرفع أجور محدودي الدخل، فيتعرّض لمؤامرة عبر تدبير فضيحة جنسية لإطاحته. وقد شاءت الصدف أن يتزامن عرض الفيلم في «كان» مع تفجر فضيحة دومينيك ستروس ـــــ كان في فرنسا.