إنّه كتابها الثالث عن مصر بعد «السياسة أقوى من الحداثة» (2003) و«مصر ضد مصر» (2009)، لكنّ عالمة الاجتماع اللبنانيّة أقرب هذه المرّة إلى مجتمع ما قبل الثورة. تتسلل إلى عوالم المنقبات والمحجبات، وحياة الإسلاميين، والمثقفين، لتكشف الأسرار بدقة وجرأة، وتبحث في العيوب.في كتابها الجديد «مصر التي في خاطري» (دار الساقي)، تضع تحت المجهر مجتمعاً أنهكه الاستبداد لعقود من الزمن. ترتدي البزري النقاب، وتمشي في شوارع القاهرة، في محاولة لتلبّس مشاعر امرأة منقبة. حين كانت تمشي من دونه، كانت تتأهب لأي اعتداء أو تحرش. تلاحظ الآن أنّها تمشي مثل ملكة، كأنّها ترتدي درعاً: «لا أحد يستطيع التفرّس في وجهي، أو يحدّق بتفاصيل جسمي، أو يطلق علي حكماً. أنا لست امرأة خفية، ولا شبحاً، بل دبابة، أتقدم مثل الكتلة الواحدة، بثقة محمية من سلاح النظر». تلك واحدة من تجارب عدّة تعمّدت الباحثة اللبنانية أن تعيشها في القاهرة التي أقامت فيها مدّة طويلة، في أحيائها وشوارعها ومساجدها ومقاهيها وصالوناتها. نجدها تدقق في أحوال بلد يزدحم بالأسرار، والألغاز، والعادات الغريبة، لم يكن أحد يدري أنّه يتهيأ، بصورة لاواعية ربّما... لثورة. ثورة ستطيح نظامه السياسي المستبد، وتؤسس لمرحلة جديدة، مفتوحة على كل الاحتمالات.يفرد الكتاب ثلاثة فصول من أصل السبعة لحجاب المرأة ونقابها، وجسدها المخبأ داخلهما. بقية الفصول ترصد تأثير الدين على حياة المصريين، وتراقب طبائع المثقفين وتحولاتهم. تعلن الكاتبة منذ البداية أن عملها مغرق في الذاتية، فالصرامة العلمية والبحثية، قد لا تنفع كثيراً لرصد أوضاع بلد مثل مصر، يعيش معظم تحولاته عبر هوامش وحيثيات صغيرة، تنمو في المضمر والمخفي من حياة الناس. لهذا اختارت البزري أن تخلق منهجها الخاص، بوصفها عالمة اجتماع متمرّسة، توظف علمها في فهم ما تراه من مشاهدات، من دون أن تنحاز لنسق محدد. الكتابة هنا، لا تنقل أفكاراً عن ظاهرة معينة، بل تتغلغل بنحو شخصي، من خلال التجربة المعيشة، في مشاعر، وأحاسيس، وآليات تفكير، ومناخات اجتماعية ودينية.
تعرض صاحبة «أخوات الظل واليقين»، تحولات النقاب والحجاب في المجتمع المصري اللذين أصبحا جديدين لا يشبهان تقاليد المظهر النسائي في أوائل القرن الماضي. لقد عبر النقاب الطبقات الاجتماعية كلّها، فصار ثرياً أو فقيراً، ورعاً أو مغناجاً، ممشوقاً أو مرهقاً، مصرياً أو خليجياً أو يمنياً، متحرراً أو متشدداًَ. تجاوز النقاب التزامه الديني ليصير أقرب إلى الموضة الناشئة، أو أداةً في المواجهة مع الغرب. كأنّ معالم الحرب والسلم واستراتيجيات المواجهة، ترتسم على أجساد النساء. هذه الخلاصات ليست نظرية فقط، بل هي نتيجة حوارات وأحاديث مباشرة، وظفتها البزري في نصها من خلال استحضار نماذج محجبات، والبحث عن أسباب ارتدائهن الحجاب، وقد اختلفت تبعاً للسياقات الاجتماعية التي ينتمين إليها. تشرّح الكاتبة الجسد الأنثوي المنكمش خلف الحجاب والنقاب. جسد لم يذق سوى طعم الاختباء، والتواضع، والانضباط الصارم. تستقرئ أيضاً الجسد السافر الذي لا يصله غير الإدانة لفعل السفور، وتأثيم صاحبته، ما يبرر سلوك التحرش والاعتداء العلني. كل ذلك في مجال عام تحتل كل مساحاته التعبيرات الدينية، من مفردات التخاطب والتواصل والتفاعل بين الناس، وصولاً إلى وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة. يتعايش مع هذه الهيمنة الدينية خطاب المثقفين، وهو كتلة صلبة من الأفكار الجاهزة والملتبسة التي تقف خلف خطاب تنويري، في نسق قائم تصفه الباحثة بالفوضوي. هو خليط من بقايا الهيمنة اليسارية السابقة، ومن رومنطيقية نهضوية وَفْديّة، ومن ناصرية ما. ذخيرة لغوية مرتبطة بنظام، ينطق به المثقفون لمواجهة التشدد الإسلامي.
تجولت دلال البزري في طيات ومطارح معقدة ومتنوعة في المجتمع المصري. بعين المراقبة والمدققة، سعت إلى فهم أكثر عمقاً. لم تكن تمتلك إجابات مسبقة، ولا تتوقّع نتائج محدّدة، بقدر ما راحت تتساءل وتشخّص وتترك مساحات للتأمل. لإنجاز «مصر التي في خاطري» استخدمت طرقاً عدة لتطبيق هذا المنهج، منها الملاحظة والشرح والتحليل والاستنتاج، ضمن مناخ متماسك امتزج فيه السرد والأدب، علم النفس بعلم الاجتماع، والتقويم العلمي. هكذا أضاءت الباحثة على بعض من عوالم بلد «لا يستطيع أحد تغطيته بأكمله».