لم يكن انكفاء وليد غلمية في الفترة الأخيرة من دون سبب. المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا اللبناني كان في صراع مع مرض عضال أبعده لفترة عن نشاطه المعتاد. غاب اسمه عن قيادة الأوركسترا الوطنية الفلهارمونية في برامجها الدورية، وكذلك الأوركسترا الوطنية العربية الشرقية التي كان من المقرّر أن تقدّم أمسية غداً بقيادة أندريه الحاج.
رحل وليد غلمية أمس بعد سنوات قضاها في التأليف الموسيقي الكلاسيكي الطابع خصوصاً، ذي التأثيرات الغربية حيناً، والتراثية الشرقية حيناً آخر. ليس غلمية الوحيد في سلوك هذا الدرب لناحية النهج في التأليف الموسيقي، لكنه، بخلاف أترابه الذين سبقهم في رحيله، مثل بوغوص جلاليان وجورج باز وعميد المجموعة توفيق سكّر، عرف كيف يرتقي سلم الشهرة عبر انخراطه، قبل الحرب الأهلية اللبنانية في نشاط المؤسسات التي تعنى بالفنون مثل المهرجانات («بعلبك» و«جبيل»)... وكذلك بعد الحرب، أي حين بدأ مرحلة ترؤسه «المعهد الوطني العالي للموسيقى» (الكونسرفتوار ـــ 1991) وإعادة هيكلة المناهج فيه، ثم تأسيس الأوركسترا الوطنية السمفونية (التي أصبحت فيلهارمونية أخيراً)، وتولى قيادتها في الأمسيات الأسبوعية في كنيسة «مار يوسف للآباء اليسوعيّين» في الأشرفية.
وليد غلمية مولود في جديدة مرجعيون (جنوب لبنان) عام 1938، وحائز دكتوراه في العلوم الموسيقية. أتقن العزف على الكمان (المهنة التي ابتعد عنها بسبب كسر أحد أصابعه). هو شريك سيمون أسمر في «استوديو الفن» في مرحلة تعثّر الأغنية اللبنانية والعربية الشعبية، حيث كان في لجنة الحكم خلال دورات عدة من البرنامج المذكور. في السنوات الأخيرة، شارك عضواً في اللجنة المنظمة لـ«البستان»، وقاد الأوركسترا الوطنية في العديد من أمسيات هذا المهرجان (غاب عن الدورة الأخيرة) كما في «بعلبك» و«بيت الدين»، وكانت إطلالته الأخيرة مع هبة القوّاس في افتتاح المهرجان البعقليني السنة الماضية.
لغلمية العديد من المؤلفات الأوركسترالية، أشهرها سمفونياته التي أعاد تسجيل خمسٍ منها وإصدارها عام 2005 (بقيادة الأوكراني فلاديمير سيرنكو)، وهي تعود تأليفاً إلى النصف الثاني من السبعينيات ومطلع الثمانينيات. حملت هذه الأعمال الطابع الملحمي العربي، وعُنونَت على هذا الأساس، مثل «القادسية»، و«المتنبي»، و«اليرموك»، و«الشهيد»... إلى هذا الريبرتوار، تضاف الأعمال ذات الاستخدام المسرحي والسينمائي (أفلام وشرائط وثائقية)، أي التصويرية المنحى. وعمل في هذا السياق مع المسرحيّين روجيه عساف، ويعقوب الشدراوي، وريمون جبارة، وميشال نبعة والسينمائيّين مارون بغدادي («بيروت يا بيروت») وبرهان علوية («كفرقاسم») ومحمد سلمان وكثيرين غيرهم من رموز المسرح والسينما في لبنان. إلى ذلك، تضاف أبحاث غلمية إلى التراث الموسيقي العربي، من لبنان إلى سوريا والعراق وليبيا.
تتضارب الآراء في الموسيقي الراحل، وخصوصاً مِن العاملين في مجاله (مؤلفون، موسيقيون، نقاد). بعضهم خالف نهجه في إدارة الكونسرفتوار على مدى عقدين. وبعضهم الآخر انتقد أسلوبه في التأليف، أو طريقة قيادته الأوركسترا الوطنية (أو ما يعرف بالأداء الخاص بالأعمال المعروفة من الريبرتوار الكلاسيكي الغربي). لكن وليد غلمية دأب دوماً على عدم الاكتراث بوجهات النظر المختلفة معه، في المسؤوليات التي تولاها أو النتاج الفني الذي أنجزه. كان يُعَدّ، ومثله كثيرون، أنه مِن الذين بذلوا أقصى الجهود للترويج للموسيقى الكلاسيكية الغربية، والعربية الشرقية أيضاً (عمله على إعداد الكلاسيكيات الطربية والشعبية في السنوات الأخيرة).
مع رحيل وليد غلمية، ستبدأ مرحلة وراثته في المسؤوليات التي كان يتولاها. لناحية قيادة الأوركسترا الوطنية، لن يكون هناك مشكلة كبيرة؛ فالقائدَان، اللبناني من أصل أرمني هاروت فازليان، والبولوني فويجك تشبّيل، سيتابعان المسيرة، وهما على بيّنة من خصائص الأوركسترا اللبنانية؛ إذ يعملان مع عناصرها منذ زمن. أما رئاسة المعهد الوطني العالي للموسيقى، فتلك مسألة شائكة؛ إذ كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن أن غلمية رتّب هذا الأمر قبل رحيله، والرئيس الجديد سيكون، على الأرجح، من المقربين منه (يُتداول اسم عازف البيانو وليد مسلّم)، في حين أن كثيرين يعارضون هذا الخيار، وسيقدمون ترشحهم لهذا المنصب.