اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، يبدو الفنّان الستينيّ الملتزم منخرطاً في مشروع موسيقي يقوم على التجريب. لطالما كان مسكوناً بهاجس عصرنة العود والأغنية والموسيقى العربية، لكن يبدو أنّه قرّر أخيراً أن يقتحم معترك التجريب بشيء من الجسارة، متجاوزاً الإطار الذي بناه لنفسه منذ مرحلة السبعينيّات. موسيقى مرسيل خليفة ليست دائماً «وردية» ومنمّقة كما قد يخيّل لبعضهم.
بين حين وآخر، يفاجئنا صاحب «جدل» بجمل لحنية متشظيّة، وأسلوب لا يخلو من الحدّة والتمرّد، وخصوصاً على مستوى التوزيع (وإعادة التوزيع). وهذا ما يتبدّى في العديد من حفلاته التي تتخلّلها فقرات عزف مرتجلة لا تستجيب لمعايير الموسيقى الأكاديمية. هذه الإنعطافة النوعية لم تَرُق لبعض النقّاد. مع ذلك، واصل الموسيقي المبدع و«المشاكس» ما بدأه (منذ العام 2000) بمزيد من التكثيف والأسلبة، برفقة نجلَيه رامي وبشار، وفرقة «الميادين».
الحفلة التي يقدّمها غداً في«أسواق بيروت» ضمن «مهرجان بيروت للموسيقى والفنون» بمشاركة رامي (بيانو) وبشار (إيقاعات)، تمثّل نقطة تحوّل في مسيرة مجبولة بطين الأحلام الكبيرة. «نخوض اليوم تجربة جديدة تعكس رغبة في إعادة إكتشاف الذات والآخر. ننطلق في هذا المشروع، منقّبين في الموسيقى المعاصرة بحثاً عن الغامض والمجهول، محاولين تطوير لغتنا الموسيقية التي تسعى إلى ملامسة المطلق»، يقول مرسيل. ويضيف: «نبحث عمّا يبقينا على تماس مع الجمهور، ونحرص على مواكبة لغة العصر من جهة، والمحافظة على جذورنا الشرقية من جهة أخرى».
صاحب «أحمد العربي» يفضّل عدم كشف تفاصيل الأمسية. لكننا علمنا أن على البرنامج مقطوعات وأغنيات من تأليف مرسيل، وأخرى لرامي وبشار. قد يستعيد أغنية «كانت الحلواية» («القمر والمراية») بتوزيع جديد. وعلى الأرجح، سيؤدّي بشار أغنية «مسافة» Distance (من باكورته «بقعة نفط»)، فيما يقدّم رامي مقطوعات جديدة شديدة الراهنية. هكذا، يتجاور الروك والموسيقى الشرقية (الشعبية والحداثية) والموسيقى الغربية المعاصرة، ويختلط الإرتجال بالمقطوعات المدوّنة والمؤثّرات ووصلات الشدو خارج أسوار الكلمة (vocalises، وآهات).
عن حفلته البيروتية ورحلته مع رامي وبشار، يقول خليفة الأب: «وُلدا للنغم، وتشبّعا بالموسيقى العربية والغربية منذ نعومة أظفارهما. بهذا المعنى، ليس غريباً أن نحيي سويّة هذه الأمسية التي تصلح نواة لأسطوانة مقبلة». ويضيف: «بالنسبة إليّ كانت الثورة هي الجوهر الكامن في عمق التجربة الفنّية والإنسانية. لهذا، لا أستغرب أن تلقى أعمالي اهتماماً كبيراً من الجيل الجديد. أؤمن بأنّ الفنّ يمكن أن يغيّر العالم، ويخفّف من وطأة الألم والبؤس». رامي الذي بدأ مشواره مع الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وأصدر مجموعة أسطوانات ـــــ أبرزها «فوضى» (2006)، وتنتمي إلى الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة ــــ سيتجلّى كعادته متجنّباً الاستعراض على البيانو، ومزاوجاً بين النفَس التجريبي والطليعي. أمّا بشار الذي أظهر همّاً موسيقياً «نظيفاً»، وموهبة واعدة تأليفاً وعزفاً على البيانو والآلات الإيقاعية، فيتحضّر بحماسته المعهودة لتأدية أغانيه ومقطوعاته التي تتأرجح بين الروك التطوّري وpsychedelic والموسيقى العربية.
تبقى تحية خاصة للأب الفنّان الذي يُمنح، بعد أيّام، دكتوراه فخرية من «الجامعة الأميركية في بيروت» (25/ 6)... لكن مرسيل لا يفكّر الآن إلا بالحفلة الاستثنائيّة التي يقدّمها الليلة مع رامي وبشّار. الليلة خمر إذاً، وغداً أمر. نتصوّره منذ الآن في «وسط البلد»، وهو يردّد لأحبابه الفقراء، من شعر محمد الفيتوري («نشيد الموتى»): «عودوا أنّى كنتم/ فقراء كما أنتم/ غرباء كما أنتم...». مستعيداً هذا «التفاؤل الثوري» الذي ميّز بداياته النضاليّة: «لكنّا سوف نسير/ ومياه النهر تسير/ وشموس الأفق تسير/ ونظلّ نسير نسير...».



أمسية مرسيل ورامي وبشار خليفة: ٨:٣٠ من هذا المساء ـــــ «أسواق بيروت». www.beirutmaf.com