القاهرة | لا قواسم مشتركة بين «الفاجومي» و«صرخة نملة»، لكن أهم ما يجمعهما أنّ صالات عرضهما شبه خاوية. ذلك الخواء لا يتعلق بالضرورة بالمستوى الفني لكلّ من العملين. تأخر موسم الصيف في القاهرة حتى بدا كأنه لن يأتي. ولأسباب تجارية وأخرى تتعلق بطبيعة الفيلمين، جرى دمج نهايتيهما بمشاهد «ثورة 25 يناير»، لكن ذلك لم يبد جذاباً للجمهور الذي شارك في الثورة بنفسه، أو تشبّع بصورها عبر وسائل الإعلام. بدا أن شيئاً آخر جمع بين السينما وكرة القدم هذا العام: غياب المزاج. طبعاً، المصير الذي لحق بفيلمين «ثوريين»، أفضل بكثير من مصير فيلم طلعت زكريا «الفيل في المنديل»، علماً بأنّه يفترض أن يكون الفيلم الثالث ـــــ لموسم ما بعد الثورة ـــــ وصولاً إلى الصالات. زكريا الذي استقبله قبل عامين الرئيس المخلوع ليهنّئه بالشفاء من وعكة صحية، ما زال على ولائه لمبارك، وأعلن استخفافه بالقائمة السوداء للفنانين التي تربّع على رأسها. وقال يومها في تصريح لموقع «اليوم السابع»، إن نجوم القائمة السوداء يعملون، بينما نجوم القوائم البيضاء «يجلسون في البيت». هذه النظريّة لا تنسجم تماماً مع حديث منتج «الفيل» محمد السبكي. فهذا الأخير، كاد يتوسل الجمهور لحضور الفيلم الذي سيعرض هذا الأسبوع.
هناك طبعاً أمور أخرى، كالانفلات الأمني والأزمة الاقتصادية، أسهمت في ابتعاد جمهور هوليوود الشرق عن صالاتها. موسم الصيف محطّ تنافس المنتجين، يموّل السينما لبقية العام. يكتسب الموسم أهميته من نجومه، كبار الكوميديا والأكشن. أولئك جميعاً ابتعدوا عن خطر المنافسة في عام سياسي بامتياز. هدأت الكاميرات، وأظلمت الاستديوهات لأشهر قبل أن تعود على استحياء، على أمل اللحاق بموسمي عيد الفطر وعيد الأضحى.
وبين تفاؤل وتشاؤم، يدلي السينمائيون بتصريحات حذرة عن مستقبل السينما. ليس فقط لأنّ الفن السابع مرآة تعكس قضايا المجتمع، بل لأنّ صناعة السينما ترتبط مباشرة بالاستقرار السياسي، ثم بطبيعة ذلك الاستقرار.
هنا تتزايد المخاوف من صعود التيارات المتشددة، رغم أنّ وزير الثقافة عماد أبو غازي أعلن أن «لا خوف على السينما من الإخوان والسلفيين». إلا أنّ أبو غازي نفسه يظل وزيراً في حكومة انتقالية قد تغادر بعد أشهر. ولم تتأخر التيارات الصاعدة في إعلان موقفها من السينما، بين متشددين يحرّمونها، ومعتدلين يريدون دعم السينما الوطنية، مع عدم إغفال الرقابة على «السينما التي لا تراعي التقاليد». في المقابل، أعلنت المخرجة «الجريئة» إيناس الدغيدي أنّها ستجعل مهمتها الأساسية محاربة الدولة الدينية، ما اعتبره الكاتب الإسلامي فهمي هويدي «أول ضربة توجه إلى الدولة المدنية»!
هكذا تتباعد المسافة بين من رأوا في الثورة بداية الطريق لإلغاء الرقابة نهائياً، ومن وجدوا فيها وسيلة للجم السينما «غير اللائقة». وبين هذا وذاك، يُشغل السينمائيون بمعركتهم الانتخابية على مقعد رئاسة نقابة السينمائيين، بين مسعد فودة وعلي بدرخان ومحمد فاضل. ويراقب المنتجون الوضع برمته، ليس فقط من أجل «الاستقرار»، بل لمعرفة مسار الأسقف الجديدة، ارتفاعاً أو انخفاضاً.
من هنا، لم يكن مستغرباً التشاؤم الذي ساد إثر قرار إلغاء «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» هذا العام. البيان المقتضب رأى أنّ الأجواء غير مناسبة، علماً بأنّ الحكومة أصرّت على استكمال فعاليات تبدو السيطرة عليها أكثر صعوبةً، كدوري كرة القدم. أما المهرجان العريق، فقد ألغي في إجراء غير مسبوق، وتبعه قرار سحب الدعم لـ«مهرجان الإسكندرية السينمائي» تمهيداً لإلغاء دورته أيضاً. لكنّ جمعية كتّاب ونقاد السينما ــــــ التي تنظّم «الإسكندريّة» ــ تصرّ على إقامته، وخصوصاً أنّ قراراً اتخذ يقضي بتوجيه المهرجان تحية إلى شهداء الثورة. وما زال الغموض يحيط بمصير «مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة» الذي صرّح رئيسه علي أبو شادي بأنه لا يعرف مصيره!
إلغاءات متتالية ضربت بهجة الاحتفال بسينما هذا العام. لا أحد يعلم كيف ستكون صورة مصر عندما تدور السنة دورتها ويحل موعد المهرجانات نفسها العام المقبل. لكنّ فريقاً من السينمائيين والمثقفين يرى في الإلغاء فرصة لترشيد حالة الـ«هستيريا المهرجانية» التي اشتهر بها وزير العهد البائد فاروق حسني.
في نظر هؤلاء، لا تحتاج مصر إلى كل تلك الهيصة، من «المهرجان القومي للسينما المصرية»، واحتفالات المركز الكاثوليكي، إلى «مهرجان الإذاعة والتلفزيون»، مروراً بالمهرجانات المسرحية المتعددة... فعاليات فخمة يمكن إعادة تدوير أموالها لمصلحة ثقافة تتمدد أفقياً في أنحاء مصر. لكن مفارقة «مهرجانية» أخرى تطرح نفسها: ما مصير السينما الجادة التي يتنصّل منها المنتجون، وتوصف نتاجاتها بـ«أفلام مهرجانات»، من باب التكريم الظاهري والسخرية المبطنة؟ قد تتقلص المهرجانات، لكن الوعي المصري الجديد لن يقبل مجدداً بأفلام «الفيل في المنديل».