منذ مجموعته الشعرية الأولى «يقظة دلمون» (1980)، سعى خزعل الماجدي (1951) إلى تأسيس نمط جديد من الكتابة الشعرية في العراق، مع مجموعة من الشعراء الذين أطلق عليهم النقد العراقي اسم جيل السبعينيات. لكن الماجدي كان أكثر هؤلاء تنظيراً لهذه الشعرية، من خلال البيانات التي راح يصدرها بين وقت وآخر عن قصيدة النثر والنص المفتوح وقصيدة الصورة، وقد أثارت في حينها الكثير من اللغط والنقاشات. دواوين الماجدي التي تصدر بعد كل بيان تكون محملة بأفكاره التي كان يطرحها للنقاش. مسيرته تكللت بظهور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، آخرها كان عام 2008. ولكي تقترب هذه المسيرة الشعرية من نضجها النهائي، أصدر الماجدي كتاباً مهماً بعد صدور مجموعته الكاملة مباشرة، هو «العقل الشعري» الذي جاء بمجلدين استغرقت كتابتهما ثلاثين عاماً. جمع الشاعر البيانات التي كتبها على مراحل، إضافة إلى التنظيرات التي رافقت هذه البيانات. «العقل الشعري» هو العقل الرابع الذي يكشف عنه هذا الكتاب. فقد درج الفلاسفة وعلماء الحضارة والأنثروبولوجيا على وضع ثلاثة أنواعٍ من العقول هي «الديني والفلسفي والعلمي». لكنّ الماجدي يرى أن العقل الشعري سابق على هذه العقول، وهو مركز إبداعها ويعزو له كل الرؤى الفنية والإبداعية والجمالية. اشتغال الشاعر العراقي على الحضارات القديمة وفّر له مادة شعرية غزيرة ستنعكس على دواوينه اللاحقة، وخصوصاً «أحزان السنة العراقية» (دار الغاوون ــــ 2011) الذي هو أشبه بمعلّقة، علماً بأنّ ثلاث مجموعات شعرية طويلة سبقت هذا الديوان، بوصفها قصائد طويلة تشبه الملحمة، وهي «موسيقى لهدم البحر» (1985)، و«حية ودرج» (1993)، و«فيلم طويل جداً» (2003). وبموازاة دواوينه، أصدر الماجدي العديد من الدراسات في التاريخ والأساطير. كتابه الأخير في هذا الإطار يعدّ نقلة نوعية في مجال الدراسات الميثولوجية. «الميثولوجيا المندائية» (دار نينوى، دمشق ــــ 2010) هو المحاولة الوحيدة الجادة لدراسة الديانة المندائية بعد دراسة كورت رودولف (خلق الآلهة والكون والإنسان في الديانة المندائية) الذي صدر بالألمانية عام 1965، وترجمه بتصرفٍ الدكتور صبيح مدلول السهيري. لكن تلك الدراسة الجيدة في حقلها، لا تتناول إلا أساطير الخليقة، وهو جزءٌ من الأساطير، في حين أنّها تهمل أساطير العمران، وأساطير الخراب، وأساطير الموت. وبالتالي، فإن الكتاب لا يتناول إلا الربع الأول من حقل الأساطير المندائية فقط.
أما «أحزان السنة العراقية» فهو مشروع شعري متكامل. يرصد خزعل الماجدي الدمار الروحي الذي ضرب بلاده، من خلال العنف والخراب والموت. وقد اختار سنة 2006 التي اختطف فيها ابنه ولم يعد، لكي تكون نموذجاً بوصفها السنة الأكثر دموية وخراباً وحزناً في تاريخ بلاد الرافدين. يقدم لنا «روزنامة شعرية» ترصد كل أيام هذه السنة بـ 365 قصيدة في أكبر تراجيديا شعرية معاصرة كتبها الشاعر على مستويات عدة. هناك أولاً أحداث الحاضر على أرض العراق، وثانياً أحداث التاريخ المستعادة مع أحداث الحاضر، وثالثاً الأحداث الخاصة التي مر بها الشاعر في ذلك العام.
هذا المشروع هو ثمرة ناضجة من ثمرات الشعرية العراقية التي لم تنطفئ جذوتها منذ بدر شاكر السياب، إذ لا يلبث أن يظهر شاعر عراقي بين وقت وآخر وينفض عن الشعرية العراقية الغبار أو يزيح عن طريقها الصخور. بهذا المعنى، تكون «أحزان السنة العراقية» عملاً شعرياً تلتحم فيه الخبرة الجمالية للشاعر مع الألم الذي عصف به بعد خطف ولده، ووقوع الدمار والخراب والأحزان التي مر بها العراق في أكثر السنين حرجاً وانهياراً.
يحضر الرثاء في هذا الديوان بطريقة تذكّرنا بقصائد الجزع البابلي التي كان البابليون يتظلمون بها إلى الآلهة، ويختفي منه النواح العراقي المعروف، حتى يكاد أن يكون هذا الرثاء مخلّصاً من الندب وخالياً من القداسة التي غالباً ما تلحق بالمرثي. لكن في المقابل، يوظف الماجدي رمزاً دينياً ـــــ العذراء وابنها ـــــ حين يصف حال بغداد الضحية التي تصعد إلى أعلى مراتب الألم: «أنا أمّ المدن النازفة، أمّ العذاب الأبدي. أنا مسيحة المدن». «تحدث إليّ وقل يا حبيبي، إلى أين قادوك، أيّ ظلام زرعت به وأيّ خراب، لماذا تغني البلاد نشيداً حزيناً؟». الماجدي يستحضر كل الألم الذي مر على هذه الأرض، من خلال رثاء الابن المخطوف الذي سيُترك للنسور... ولا ينسى أن يمر على المذابح والانفلات والاحتلال، إذ يكتب: «سأرتلّ مجد الإنسان المهان». لكن الشاعر لا يستسلم ولا يريد بذلك المجد أن يقوده الى الاستكانة والقنوط: «ولدي أخذته النسور، ولم تنحن ركبتاي، ولم أسقط في البئر».
من الصعب الإحاطة بعمل هو بمثابة معلقة من 900 صفحة قد تكون أطول قصيدة في التاريخ، إلا بدراسة منفردة وطويلة وخاصة تلمّ بكل الثيمات التي تناولها العمل، وخصوصاً وهو يمرّ على كل الجراح التي مزقت أرض الرافدين.