كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت الحروب الإسرائيلية المتتالية ضد العرب، والعدوان المتكرر على لبنان، لكن كتاب الباحثة والأكاديمية أسيل أحمد طقشة «الضحية الصامتة ـــــ جرائم الحرب الإسرائيلية ضد البيئة اللبنانية» (دار القبس)، يسلّط الضوء على جانب بالغ الأهمية، ألا وهو العدوانية الإسرائيلية ضدّ البيئة اللبنانية، في المجال القانوني والعملي. ولإنجاز بحثها، استعانت طقشة بعدد لا يحصى من المراجع الخاصة بالقوانين الدولية المتعلقة بحماية البيئة.وتبيّن لها أنه ليس هناك أي آلية دولية دائمة لمراقبة الانتهاكات القانونية، ومتابعة المطالبات بالتعويض عن الضرر البيئي الواقع خلال فترات النزاع. هذا رغم وجود هيئة تحقيق أو تقصّ لانتهاكات البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقية جنيف عام 1949. في هذا السياق، ترى المؤلفة ضرورة إنشاء هيئة تابعة للأمم المتحدة، تكلَّف مراقبة الانتهاكات البيئية، وبتّ مسائل التعويض.
التسرب النفطي في لبنان بسبب العدوان الإسرائيلي عام 2006 هو موضوع البحث الرئيسي. وترى طقشة أن ما حصل إثر عدوان تموز، كان بمثابة جرس إنذار. وتنبِّه هنا إلى أنَّ البيئة اللبنانية، بمختلف مكوناتها وعناصرها، ستبقى دائماً من الأهداف الرئيسية لآلة الحرب الإسرائيلية. ومن القضايا التي يثيرها الكتاب، مدى امتثال لبنان لبروتوكول الطوارئ التابع لمعاهدة برشلونة لحماية البحر المتوسط من التلوث، وبروتوكول الإغراق (1976).
وتسأل المؤلّفة: لماذا لا تعاقَب إسرائيل بموجب معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار التي دخلت حيز التنفيذ عام 1994؟ تؤكد طقشة أنّ كلّ هذه الأسئلة صارت ملحّة أكثر بعد صيف 2006، إثر الاستهداف الإسرائيلي لخزانات الوقود في معمل الجية لتوليد الطاقة الكهربائية (13 تموز/ يوليو 2006)، مما أدى إلى تسرب 10 آلاف طن من النفط إلى البحر المتوسط، ونشوب حرائق لوّثت أجواء بيروت ومناطق عدة، فيما أعاق الحصار البحري جهود التنظيف الفوري.
يعرض الكتاب بالرسوم والوثائق، الأضرار الهائلة الناجمة عن تداعيات العدوان. وفي معالجتها للجوانب الميدانية والقانونية المترابطة، تدعو طقشة بإلحاح إلى عدم اعتبار هذا التسرب النفطي حادثاً ظرفياً عابراً. وتأخذ على الحكومات اللبنانية المتعاقبة عدم الارتقاء في التعاطي مع هذه الكارثة إلى المستوى المطلوب، كما تقدم عرضاً موثّقاً للمعاهدات والمواثيق التي ينبغي أن يوقّعها لبنان، فيما تظل بيئته مستهدفة من أي عدوان إسرائيلي. وتفصّل خطط الطوارئ المطلوب وضعها وتطبيقها لضمان اعتماد معايير وقواعد بيئية راسخة، لدعم التعافي البيئي وجهود إعادة الإعمار. ثم تستدرك المؤلفة قائلة إنّ المسؤولية لا تقع على عاتق الدولة وحدها، فهناك جهات متعددة ينبغي إشراكها، من شركات ومؤسسات وهيئات متخصصة وهيئات مجتمع مدني. وتسلط الباحثة الأضواء، في هذا الصدد، على تجارب شهدتها مناطق أخرى من العالم، ولا سيما بعد تسميم القوات الصربية الآبار واتّباع سياسة الأرض المحروقة، في محاولة منها لإخراج الكوسوفيّين الألبان من منازلهم. وخلال الغزو العراقي للكويت أيضاً، حوّل الجنود العراقيون أنابيب النفط باتجاه الخليج العربي، وأضرموا النيران في مئات من آبار النفط الكويتية، مما أطلق بحيرات هائلة من النفط في الصحراء.
هذا الكتاب هو بمثابة جرس إنذار في الضمير اللبناني والعربي وفي وعي الهيئات المحلية والعربية والدولية المعنية. والهدف ليس فقط صون البيئة وإنقاذها من الكوارث، وإنما أيضاً إيجاد رادع يمنع العدو الإسرائيلي من الإقدام على شن العدوان.
تخلص طقشة إلى أن البيئة اللبنانية ستبقى هدفاً لأي عدوان إسرائيلي جديد، ليس لأسباب عسكرية فحسب، بل لدوافع تدميرية. وذلك نابع من قناعة إسرائيل بأن النمو الطبيعي للاقتصاد اللبناني ـــــ إذا قيِّد له الاستقرار ـــــ سيجعل منه منافساً جدياً لاقتصادها. هذا التحدي القائم، والدائم، يفرض على لبنان، كما ترى المؤلفة، انتهاج سياسة بيئية مختلفة، وسلسلة من الإجراءات الاستباقية، محلياً ودولياً. والهدف تحصين البيئة من خلال سياسات مهيأة لدرء الخطر، أو على الأقل، قادرة على التصدي السريع والفعال، لما يمكن أن تتعرض له بيئتنا من ضرر في حال حصول أي عدوان جديد.