حالما احتلّ الكتاب مكانه في مكتبة يارا، تصدّر الفنان الكلاسيكي ــــــ المعاصر لائحة نجومها المفضّلين، إلى جانب... Eminem. يُنفق الرابر الأميركي الشهير مليارات الدولارات ليحافظ على مكانته لدى جيل اليوتيوب. أمّا مازن كرباج، فيكتفي بإصدار ألبوماته الموسيقيّة على نفقته الخاصة، وبنسخ محدودة. وكتب الرسوم موزّعة على دور النشر بين بيروت وباريس. «هذه القصة تجري» الصادر عن «دار الآدب»، هو الكتاب الرقم 11 في رصيده. بعيداً عن آلة البهرجة الضخمة، وجدت المراهقة في أعمال الفنان اللبناني ما يشبه جيلها: كائنات تحاول أن تركّب نفسها، في واقع عبثيّ، تحكمه العودة الأزليّة لكوارث قديمة.احتلّ كرباج موقعه بوصفه أحد روّاد التجريب على الساحة المحليّة، سواء على صعيد الموسيقى أو الكوميكس. نشر فصول «هذه القصة تجري» في زاوية أسبوعيّة في «الأخبار» بين 2 آب (أغسطس) 2008 و22 كانون الثاني (يناير) 2010، ثمّ جمعها في مجلّد واحد، هو أوّل إصدار له عن دار عربيّة رصينة.
طوال عامين من الرسم على صفحات «الأخبار»، حافظ زميلنا بعناد على لعبته الأثيرة: التكرار. في كلّ أسبوع، كنا نلتقي سائق الأجرة المتجه صوب الحمرا، ونزيلتي «كافي نجاغ» اللتين لا تملّان من ابتكار فنون جديدة في تعذيب الخادمات، وتاجر المخدرات، و«الدكنجي» أبو كوكو، والشابين الثملين في أحد بارات الجميزة... تكرار رآه بعضهم كسلاً، أو شُحّاً في الخيال، لكنّ صاحبه لم يتوان عن ارتكاب «جريمة» جديدة كلّ أسبوع. التلاعب هنا بشكل الكوميكس لا يشمل استخدام الأكواريل، ولا الألوان الزيتيّة، ولا إتقان كيفية رسم عيون تحتلّ مكانها الطبيعي على الوجوه. لا يحتاج الأمر عنده إلى أكثر من قلم حبر أسود، لتظهر خربشاته العريضة سليلة الفنّ الساذج. هذا الخيار البسيط في الشكل ـــــ الصارم والصعب في الوقت نفسه ـــــ وضع مازن أمام معادلة صعبة: «كيف أتوجّه إلى الشريحة الأكبر من القراء، من دون أن أخون رغبتي في التجريب؟ وكيف أوازن بين المتطلبات الحدثية للصحيفة، وبين رغبتي في إنجاز عمل عابر للزمن والأجيال؟».
في طريقه إلى الإجابة عن هذه التساؤلات، خاض الفنّان اختبارات بالجملة، كان أوّلها «عين القارئ». هذه العين «لا تخضع لقوالب مسبقة، بل قابلة للتفاعل مع أكثر الأعمال جنوناً»، كما يقول لنا. لهذا حاول في «هذه القصة تجري» تجاوز نفسه، على صعيد الشكل بالدرجة الأولى. اختار أن يروي قصّة داخل قصّة: قصة فنان كلاسيكي ـــــ معاصر، يتخيّل قصّة تتوالى فصولها أمامنا. الفنان الكلاسيكي ـــــ المعاصر ليس هنا ليروي القصّة فحسب، بل لكي يمارس مع خالقه/ صنوه هواياته الأثيرة: السخرية السوداء، من الذات بالدرجة الأولى. يرسم مثلاً شريطاً محت خطوطه بقعٌ سائلة، نفهم لاحقاً أنّها آثار حفاضات توأميه المولودتين حديثاً. في مشهد ثان يستسلم للنوم أمامنا، أو يقرر التوقّف عن التدخين، أو يحوّل نفسه إلى بازل.
بلغ تجريب كرباج أقصاه حين اختار أن يفلش رأس صنوه على صفحة كاملة، سائلاً نفسه «ليش كلّ الناس بتتهمني بجنون العظمة؟». فهل كان يسخر من صور المرشحين للانتخابات المزروعة في تلك الفترة على جدران بيروت أم كان ينتقد فنانين معاصرين أصيبوا فعلاً بتضخّم في مشاعرهم النرجسية؟ أم كان ببساطة، يبحث عن حل لملء صفحته الأسبوعيّة التي لم يجد وقتاً لرسم كل مشاهدها؟
تبقى تجربة «هذه القصة تجري» مفتوحة على تأويلات كثيرة، لكنّ الثابت فيها قدرة صاحبها على كسر المحرّمات. النكتة ـــــ بالنسبة إليه ـــــ «مسألة جديّة إلى حدّ بعيد». لذا يهزأ من عبثيّة الحياة، بعد وفاة مايكل جاكسون. ويتذمّر من انتظار موعد الغروب مع الصائمين في رمضان. وإن كان الكتاب لا يتطرّق صراحةً إلى أسماء السياسيين، فهذا لا يعني عدم وجود جرعة عالية من النقد السياسي... كرباج الذي يفضل الابتعاد عن سطحيّة الاستعارات المباشرة، يستلهم الخلافات بين العرب والفينيقيين قبل أربعة آلاف عام، لينتقد الرشى والمحسوبيات السائدة خلال الاستحقاق النيابي مثلاً، كأنّه يقول إنّ لا شيء سيتغيّر، وإنّ المتاهة ستتسع أكثر فأكثر.
ينهي الفنان الكلاسيكي ـــــ المعاصر كتابه بطريقة تراجيكوميديّة مفاجئة. ويقول في المربع الأخير: «بركي إذا بوقّف عيد حالي، بيوقّف التاريخ يعيد حالو كمان...». المشكلة أن التاريخ سيبقى يعيد نفسه!