في كلّ مرة كان فيها أنطوني شديد يقترب من الموت، كان يزداد غضباً. عام 2002، عندما أصيب برصاص قناص إسرائيلي في رام الله، لم تلتبس الأمور عليه: «أظنّ أنني استهدفت حينها عمداً... لم تكن هناك معارك لأُصاب برصاصة طائشة». وعندما خُطف مع فريق عمل «نيويورك تايمز» في أجدابيا (ليبيا) في آذار (مارس) الماضي، ظنَّ أنها النهاية «حاولنا الهروب من الحاجز العسكري، لكنّهم طاردونا وألقوا القبض علينا... تجمّدت مكاني، وشعرت بأن نهايتي اقتربت». وبالفعل، كاد مدير مكتب «نيويورك تايمز» في بيروت يُقتل، لولا جنسيّته الأميركية التي أعادته مع زملائه الثلاثة إلى قواعدهم سالمين.
اليوم، يستعيد شديد عشرين عاماً من العمل الصحافي، ليخرج بخلاصة واحدة: I want more (أريد المزيد). يقولها بابتسامة واضحة، وعينين لامعتين. يريد الذهاب إلى سلطنة عُمان لمعرفة حقيقة ما يجري هناك... إلى سوريا لمتابعة التطوّرات على أرض الواقع. يريد أيضاً العودة إلى بغداد التي أرسل إليها عام 2003 لتغطية الاجتياح الأميركي. أما مصر، فقصة أخرى: «في ميدان التحرير، يوم 11 شباط (فبراير) عشت أجمل أيام حياتي». يومها سمع خطاب التنحّي. «كان الشباب يهتفون وأغاني عبد الحليم حافظ تملأ الميدان... لقد قال هؤلاء المصريون لحكومتهم: نحن أفضل مما تظنّون». باختصار، يدرك أنطوني شديد أنّ ما يحصل في العالم العربي، «ربيع فعلي»، بحسب تعبيره. «للمرّة الأولى أشعر بالتفاؤل، تفاؤل أتمنّى أن ينعكس على لبنان إيجاباً».
نعود إذاً إلى لبنان. صاحب «ميراث النبي» (2002) أبصر النور في أوكلاهوما، لأبوين لبنانيين. والداه أيضاً ولدا في بلاد العمّ سام، إذ هاجر جداه في عشرينيات القرن الماضي إلى «العالم الجديد»، بحثاً عن حياة أفضل، بعيداً عن بلدتهما مرجعيون. هناك في الولايات المتحدة، لم تنسَ العائلة الجنوبية أصولها، فكان لبنان دائم الحضور، وخصوصاً مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. «لا أذكر أن عائلتي كانت مع طرف ضد آخر، لكنّ ميول أبي اليسارية، ساهمت في تكوين وعينا إخوتي وأنا». هذا الوعي نفسه قاد شديد إلى عالم الصحافة. «أردت تغيير النظرة إلى الشرق الأوسط... لم يكن يعجبني ما أقرأه وأشاهده عن المنطقة، فالأخبار كانت تنقل بالطريقة التي ترسمها السياسة الأميركية». وحتى اليوم لا يزال هذا الصحافي يذكر ما قرأه من كلام تقريبي أو مضلّل، عن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ثم مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982.
لكن السياسة لم تكن السبب الوحيد لاختيار شديد «مهنة المتاعب»، بل النظرة إلى العرب، ونزع الصفة الإنسانية عنهم في معظم وسائل الإعلام الأميركية. أسباب جعلته مصرّاً على اختيار المهنة التي ستقوده إلى الجبهات في السنوات اللاحقة. عارض الشاب الطموح رغبة والده في أن يصبح محامياً، وانتقل إلى جامعة «ويسكونسن» ليدرس الصحافة، وبدأ بعدها عمله في «وكالة أسوشيتد برس» عام 1990. لكنه سرعان ما أدرك أن الكتابة عن الشرق الأوسط مهمة شبه مستحيلة، إن لم يتعلّم اللغة العربية. حزم حقائبه، وتوجّه إلى مصر. تلقّف أصول الضاد في «الجامعة الأميركية في القاهرة»، وتغلغل في المجتمع المصري. بعد أربع سنوات أي في عام 1995، اعتمدته الـ«أ. ب.» مراسلاً لها في العاصمة المصرية، واستمر في عمله هذا إلى عام 1999.
ومن وكالة الأنباء إلى صحيفة «بوسطن غلوب»، انتقل شديد لتبدأ رحلته مع الصحافة المكتوبة. رحلة سيقترب فيها من الموت أكثر من مرة، وسيتعرّف من خلالها إلى «مأساة العرب»: من رام الله، إلى بيروت فأجدابيا، ودمشق، و... بغداد طبعاً. إذ اعتمدته الـ«غلوب» مراسلاً لها هناك، قبل أن ينتقل إلى «واشنطن بوست» التي تابع فيها تغطية الحرب الأميركية على العراق.
لم تكن تجربة بلاد الرافدَين عادية في حياة أنطوني شديد. بعد انسحاب الصحافيين الأجانب من العاصمة العراقية بسبب تزايد أعمال العنف، كان جواب هذا الصحافي واحداً: «لن أغادر». بل ذهب أبعد من ذلك. قبل سقوط بغداد بأيام، اتّصل بفيليب بينيت ــــ أحد المسؤولين في الصحيفة ــــ قائلاً له: «أرجوك دعني أبقى هنا... لقد أعطيت للقصة التي أنا بصددها حياتي كلها».
وبالفعل بقي في العراق، ونشر سلسلة مقالات عن معاناة المواطنين، وعن مشاكلهم «الصغيرة» التي صنعت مأساة الوطن الكبيرة. «تمكّنت من رسم صورة، ووضع اسم لهؤلاء القتلى العراقيين الذين تحولوا إلى مجرد أرقام في الإعلام العالمي». هذه المقالات نفسها قادته مرّتين إلى جائزة «بوليتزر» عن فئة «الصحافة الدولية» في عامَي 2004 و2010. كما وصل إلى نهائيات الجائزة عام 2006، عن تغطيته لعدوان تموز في لبنان. هذا العدوان الذي وصفه بدقة وبكثير من العاطفة: «المعاناة الإنسانية في الجنوب كانت من أسوأ ما شاهدته في حياتي»، مشبّهاً مأساة اللبنانيين وقتها بما حصل في الفلوجة (العراق).
ومع انتهاء العدوان، اتخذ شديد قراراً مفاجئاً بالنسبة إلى كثيرين: وصل إلى لبنان في عام 2007، واختار تمضية عام كامل هنا، خصصه لترميم منزل عائلته المهجور والمصاب بفعل القذائف الإسرائيلية في مرجعيون. وها هو اليوم ينجز كتاباً عن هذا العام الذي قضاه في الجنوب. ومن المتوقّع أن ينشره في الولايات المتحدة خلال الأشهر المقبلة.
ويبقى سؤال واحد طرحه كثيرون: لماذا غادر «واشنطن بوست» إلى «نيويورك تايمز» عام 2010؟ يبدو الجواب بسيطاً بالنسبة إلى شديد: ««البوست» تغيّرت كثيراً في السنوات الأخيرة، وغادرها المقربون مني، فانتقلت إلى «التايمز» لأصبح مراسلها في بغداد، قبل أن أعيّن مديراً لمكتبها في بيروت». اليوم يعمل أنطوني شديد جنباً إلى جنب مع زوجته الصحافية في الجريدة نفسها ندى بكري. بعد غد السبت، تسلّمه «الجامعة الأميركية في بيروت» الدكتوراه الفخريّة، إلى جانب مرسيل خليفة، وشخصيات أخرى. يبدو الرجل سعيداً لإقامته في بيروت... «راس بيروت» تحديداً، هذه المنطقة التي يكتشف تفاصيلها يوماً بعد يوم، ويرتاح لتربية ابنه مالك في شوارعها.



5 تواريخ


1968
الولادة في أوكلاهوما (الولايات المتحدة)

1991
سافر إلى مصر لتعلّم اللغة العربية في «الجامعة الأميركية في القاهرة»

2004
فاز بجائزة «بوليتزر» عن تغطيته للاجتياح الأميركي للعراق

2010
انتقل من «واشنطن بوست» إلى «نيويورك تايمز»، وفاز بـ«بوليتزر» الثانية

2011
تمنحه «الجامعة الأميركية في بيروت»
بعد غد السبت دكتوراه فخرية عند السابعة والنصف مساءً، ويستعدّ
لإصدار كتاب عن ترميم منزله في مرجعيون الجنوبيّة