أمستردام | على ضفة نهر «أمستل» وسط أمستردام، قدّمت فيروز أول من أمس أمسيتها في المسرح الملكي «كاريه»، ضمن مهرجان «هولندا للموسيقى والفنون». في 7 و8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كان للجمهور اللبناني لقاءان معها في «بيال»، يوم أطلقت ألبومها الأخير «إيه في أمل». وبين بيروت وأمستردام، لم يختلف المشهد كثيراً: هستيريا التهافت على البطاقات (نفدت بعد ساعات فقط من طرحها للبيع)، وتوافُد الجمهور قبل ساعات من موعد الحفلة، والمطر الذي «بارك» الحدث حتى فجر الأحد، وحجم الفرقة الموسيقية وشكلها وقائدها (هاروت فازليان)، وجنون الفرحة لحظة اللقاء وجنون اللوعة لحظة الفراق... وكذلك برنامج الحفلة الذي تألّف من جديد وقديم زياد/ فيروز، والأخوين رحباني، إضافة إلى أعمال غنائية وموسيقية من ريبرتوار زياد أدّاها الكورس. من هذه الناحية وحدها إذاً، لا فرق بين بيروت وأمستردام! عموماً، كانت الحفلة جيدة جداً. كانت فيروز كما عرفناها دوماً. صوتها ما زال يفاجئنا بإعجازات تأتي في المكان غير المتوقَّع. بين الخبرة الطويلة من جهة، وما تركه الزمن من أثر على طاقاتها الصوتية، بات للمستمع ذي الأذن الدقيقة علاقة جديدة بفيروز. بالأمس، قلنا إن ما خسرته من زخم في النوتات العالية، كسبته مضاعفاً في الطبقة المنخفضة نبرةً وطاقةً. اليوم، والوقت يمرّ، كان يُفترض أن تزيد الملاحظة الآنفة حدّةً بسلبيّتها وإيجابيّتها. لكن على العكس، ثمة أمر مهم لم نعره اهتماماً في حفلتيْ بيروت: ما يُعَدّ «مساحة خطر» في المجال الصوتي عند فيروز، باتت تحسن استخدامه بطريقة ذكية وفنية؛ إذ جعلت منه لسان حال فتاة في مقتبل البلوغ، خجولة، ودلوعة أيضاً. أوضح مثال على ذلك عبارة «يا ضيعة» في أغنية «حمرا سطيحاتِك»، وكذلك عبارة «يا دلّلي» (وعبارة «هلّق» في المذهب الثاني) في أغنية «إمي نامت عَ بكير».
أداء الفرقة أيضاً كان جيداً جداً. لكن يؤخذ عليها فقط التجويف الذي تعرضت له بعض الأغنيات («اشتقتلك»، «ما شاورت حالي»، «قصة زغيرة كتير»...) نتيجة نقص في آلات النفخ. كذلك كانت هناك هفوات طفيفة من تلك التي لا تلتقطها نشوة الجمهور، ارتكبها بعض الموسيقيّين في تنفيذ البرنامج. أضف إلى ذلك أنّ أداء الفرقة أتى متفاوتاً في الإحساس بين ممتاز وجيّد. لكن، ألم يحن الأوان لوضع هذه الموضوعية المفرطة جانباً تجاه فيروز ـــــ وخصوصاً في الحفلات الحية ـــــ عند هذه اللحظة من مسيرتها الطويلة المليئة بالجمال؟ هكذا عومِلت الأساطير عبر التاريخ، من قائد الأوركسترا الرهيب كارايان، إلى عازف البيانو الكبير ريختر وغيرهما. إنه الحد الأدنى من الجميل الذي يمكن ردّه لهؤلاء.
لكن لحظة اللقاء لا تكتمل من دون الحكاية التي سبقتها قبل أيام من الحفلة. المشهد من الكواليس لا يقلّ إمتاعاً عن الخشبة. فيروز حاضرة كأي عضوٍ من أعضاء الفرقة. ملتزمة، منضبطة، صبورة، مثابرة ولا تتعب. تتمتع بحس موسيقي عام قلّ نظيره. إحساسها بسرعة الإيقاع (Tempo) فوق العادة، إذ تدرك سريعاً الخلل غير المنظور: «سريعة شوي». كذلك تلتقط أي هفوة من أي موسيقي أتت: «في شي مش زابط». هذه عينات فقط. ومن جهة ثانية، «السيّدة» القليلة الكلام والجدية إلى أقصى الحدود، لم تكن تفوّت أي مزحة منمّقة في المكان المناسب. وأحياناً يأتي ذلك من داخل العمل الموسيقي وللإشارة إليه، كما في أحد التمارين على «إيه في أمل». إذ تختم الأغنية بـ«تنيْناتنا منعرف شو صار»، وتلحقها فوراً عند سكوت الموسيقى، بـ«شو صار» لاستشعارها خللاً ما في تنفيذ الجملة الأخيرة. تأتي وفي يدها دوماً أوراقها الخاصة. عند كل تفصيل تلتقطه وتدوّن بنفسها أدق التفاصيل الموسيقية والشكلية. لا تترك التمارين حتى في الشق غير المتعلق بها مباشرة، أي أغنيات الكورس والمقطوعات الموسيقية. فهذه حفلتها وكل ما يحدث فيها، ترى أنّه مسؤوليتها وحدها تجاه الجمهور. أما الخسارات التي من العبث التحسّر عليها خلال البروفات، فهي المتمثلة في الأداء الممتاز لبعض الأغنيات (وأحياناً للحظات منها)، من النوع الذي قد لا يتكرّر، بما يحمله من نجاح من الفرقة وتنويعات وتطريبات في غاية الجمال من فيروز، مثل إحدى المرات في «سلملي عليه».
خلال الحفلة، عند انتهاء «إمي نامت عَ بكير»، اهتزّ هيكل الصالة الملكية. تصفيق حاد وصراخ من الحضور العربي، وكذلك الأجنبي الذي زايد بحماسته على جمهور يعرف فيروز ويعشقها منذ سنوات. لكن ماذا أحب الهولنديون، وبعضهم يسمع فيروز وموسيقى زياد والأخوين ربما لأول مرة؟ «وطى الدوار»، و«بعدنا»، و«الله كبير»، و«يا ريت»، و«قصة زغيرة كتير»؟ أم «ما شاورت حالي» و«عودك رنان» و«راجعة بإذن الله»؟ أم «سلملي عليه»؟ أم «إيه في أمل»؟ لن نعرف أبداً. ربّما مسّتهم تلك الخلاصة التي تُذرّ كالسحر في النفوس والآتية من عقود معتّقة من التعب والمواهب.