بعد توقف اضطراري دام ثماني سنوات، تعود مجلة «الطريق» لاستئناف مشروعها الذي يبدو قابلاً للتجدد، وقادراً على فتح صفحة جديدة في مسيرته غير القابلة للاكتمال. كأن المجلة سعت باستمرار إلى مجاراة اسمها. شقت «طريقاً» وعرة وضيقة في الثقافة العربية، وبدأت بتعبيده وتوسيعه في رحلتها التي بدأت بطموح سياسي وأيديولوجي تحريضي وتعبوي، تمثّل في مناهضة الفاشية والنازية، قبل أن ينفتح على حركات التحرر العربية، وتغيرات الواقع الاجتماعي، والأصوات الجديدة في الأدب والفلسفة والنقد، من دون أن تنقطع عن البحث في أزمات وقضايا البلد الذي صدرت فيه.لا تختزل العناوين السابقة ما قدمته المجلة عبر تاريخها الطويل والمتشعب، ولا تختصر الطموحات المختلفة للكتّاب الذين نشروا فيها مقالاتهم وأبحاثهم وإبداعاتهم. صحيح أن «عصبة مكافحة النازية والفاشية في سوريا ولبنان» هي الجهة التي أصدرت «الطريق» برخصة استصدرها رئيسها المهندس المعماري أنطوان تابت (1907 ـــ 1964)، إلا أن المجلة لم تتوقف عن مواكبة الواقع وقضاياه المستجدة. مع مرور الوقت، تحولت «الطريق» إلى ما يشبه جامعة أو مؤسسة أبحاث ضخمة، لكنها لم تخفِ هويتها العائمة على فكر ماركسي ثوري وصارم في البدايات، وتقدمي ومنفتح على أسئلة النهضة العربية، وأفكار التنوير واليسار والتجديد في مراحل لاحقة. ارتبطت «الطريق» بالحزب الشيوعي اللبناني، وبالاتجاهات الماركسية في العالم العربي، إلى حدّ بدت فيه لسان حال الحزب، وحاملة لواء الماركسية.
لكن هذه الهوية الواضحة خُصِّبت لاحقاً بملامح وتفصيلات متنوعة، قرّبت المجلة من صيغة مجلات أخرى مزجت بين الفكر والإبداع، من دون أن تفقدها خصوصيتها الفكرية والنظرية. كان للأحداث والتحولات السياسية دورٌ جوهري في انعطافات وتغيرات طاولت الخط الأساسي للمجلة، وعرّضت خطابها العام لمراجعات نقدية شجاعة، ما فتح الأبواب لطموحات وأفكار جديدة. نتذكر في هذا السياق تأثير هزيمة حزيران (يونيو)، وانهيار الناصرية، ونشوب الحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وصولاً إلى الحدث الأهم بالنسبة إلى أسرة «الطريق»، أي انهيار الاتحاد السوفياتي.
في غضون ذلك، كانت تغيّرات أقل ضجيجاً، وأكثر عمقاً، تتسرب إلى النصوص التي تنشرها المجلة. تغيراتٌ لم تكن غائبة عن ذهن المشرفين عليها، إن لم يكن معظمها حدث بتحفيز مباشر منهم، وخصوصاً في سنوات السبعينيات والثمانينيات التي شهدت انضمام الراحلين حسين مروة (1910 ـــ 1987) ومهدي عامل (1936 ـــ 1987)، وكريم مروة إلى كادر المجلة كتابةً وتحريراً، إلى جوار محمد دكروب (راجع المقال أدناه) الذي التزم العمل فيها منذ منتصف الستينيات. ولا ننسى هنا أنّ هذه التغيرات كانت مصحوبة باتساع مروحة الأسماء والتجارب المحلية والعربية التي احتضنتها صفحات المجلة، إذ انتهت إلى الجمع بين إخلاصها لخطها الأيديولوجي والتنظيري، والإصغاء إلى حركة الواقع واستجابات النصوص الإبداعية والفكرية لهذا الواقع.
في الحقيقة، هذا التنوع ـــ ولو بحدوده الدنيا ـــ لم يغب عن «الطريق» منذ عددها الأول الذي ضمّ مقالات نظرية لرئيف خوري وعمر فاخوري، إلى جانب نصوص لتوفيق يوسف عواد والياس أبو شبكة وميشال طراد وأحمد الصافي النجفي. كما أن أعداد السنوات الخمس الأولى ضمت مذاقات وأمزجة مختلفة لأسماء مثل: نقولا شاوي، وخالد بكداش، وكامل عياد، وخليل مطران، ومارون عبود، ومحمد مهدي الجواهري، وطه حسين، وميخائيل نعيمة، ونعمان عاشور، وأمين نخلة، وحنا مينه، وأنطون مقدسي.... بينما نشرت المجلة لاحقاً لمئات الأسماء التي تدخّلت مساهماتها ـــــ إلى جوار المجلات والصحف الأخرى ـــــ في صناعة المشهد الثقافي العربي كله، وليس مشهد المجلة وحده.
أسماء ونبرات سهّلت على كريم مروة أن يصف «الطريق» في ذكراها الأربعين بأنها «مجلات عدة في مجلة واحدة». في السياق ذاته، نشير إلى أهمية الأعداد الخاصة التي كانت تصدرها المجلة، ومنها: «أدب المقاومة في فلسطين» (1968) الذي ضمّ أول حوار شامل أجراه دكروب في موسكو مع محمود درويش، و«الشعر العربي الحديث» (1971)، و«السينما العربية البديلة» (1972)، و«قضايا المسرح العربي» (1986).
مع ذلك، ظلت الصفة الماركسية واليسارية الغالبة على صيت المجلة، وهو ما لم يُنكره المشرفون عليها يوماً. ولعلنا لا نبالغ في إمكان استخراج سيرة شبه شاملة لـ«المنهج الواقعي الاشتراكي» في الأدب والنقد، من المواد التي نشرتها المجلة طوال تاريخها الذي يبلغ السبعين عاماً مع صدور العدد الجديد. كانت هذه الواقعية نسخة من الواقعية السوفياتية التي تغذت من «علم الجمال الماركسي»، وخضعت لمحاكمات سياسية وأيديولوجية فجة، ثم أصبحت مرنة أكثر مع تعرضها للنقد وتغير فكرة الواقع في النصوص الإبداعية، قبل أن يزلزلها سقوط نموذجها الأصلي في الاتحاد السوفياتي نفسه. لعل محتويات العدد الجديد تشرح الزاوية التي ستطل منها المجلة على الحاضر. ها هي تستقبل نصوصاً سردية لشبان مثل: سحر مندور وهلال شومان، ومقالات عن أفلام الشباب ومسرحياتهم الجديدة... بينما يصمم حلتها الفنية الزميل آميل منعم.
ويحتفل المحور الرئيسي للعدد بالثورات العربية الراهنة من خلال نموذجي تونس ومصر. كأن ذلك هو الجواب الشافي والمقنع على سؤال لم نطرحه حتى الآن، وهو: لماذا عودة «الطريق» اليوم؟