النصوص الأخيرة التي كتبها إدوارد سعيد (1935 ـــ 2003) قبل رحيله، تثير أسئلة عميقة حول العلاقة الملتبسة بين المثقف ومحيطه، وأثر التحولات العالمية في إقصاء دور النخب، على يد أنظمة مستبدة. في «خيانة المثقفين ـــ النصوص الأخيرة» («دار نينوى»، دمشق ـ ترجمة أسعد الحسين)، نستعيد أسئلة صاحب «الاستشراق»، بروح اللحظة العربية الراهنة التي أزاحت اللثام بعنف عن شخصية المثقف. هذه الشخصية التي بدت عاجزة ومترددة في الانخراط بالحراك العربي المباغت، كأنّها تعيش «خارج المكان» حقاً.الكتاب يضم نصوصاً أنجزها إدوارد سعيد في سنواته الأخيرة... وإذا بها تبدو راهنة أكثر من أي وقت مضى. يمكننا قراءتها كإشارات مبكّرة على ضرورة الخروج من مستنقع الصمت، بوصفها محاولة لإشعال النار في الحطب اليابس. يروي صاحب «الثقافة والإمبريالية» حكاية ذات مغزى. فقد تلقى دعوة من مدير معهد ومتحف فرويد في فيينا، لإلقاء محاضرة فرويد السنوية باسم هيئة المعهد. لكنّه فوجئ ـــ بعد أشهر ـــ برسالة أخرى، تخبره بإلغاء محاضرته، بسبب الوضع السياسي في الشرق الأوسط. ليكتشف ـــ كما يقول ـــ بأن الأمر يتعلق بصورة له، نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» بنسخة مكبّرة وخيالية، وهو يرمي الحجارة على الشريط الحدودي بين جنوب لبنان وإسرائيل.
في المقابل، هناك حادثة أخرى تعود إلى السبعينيات، تتعلق هذه المرّة بتقديس كارل ماركس في الجامعات البولندية. حينها نبهه زميل في الجامعة بألا يكتب عن ماركس بطريقة نقدية. «فقد فرضت الحكومة حظراً صارماً على الانحراف عن الخط الشيوعي». ويشير إلى حوادث أخرى، تتعلق بانتهاك حرية التعبير، كشكل نقيٍّ للهمجيّة الفكرية، من أميركا إلى العالم العربي، تحت بند حذف كل ما هو «لا أخلاقي». ويتمّ ذلك بالضغط من وراء الستارة، والتهديد، والتخويف، للإذعان لرقابة مكارثيّة،. ويعتبر المفكر الفلسطيني الراحل أنَّ التحريم الأخلاقي، «هراء مطلق، وفاشية مقنّعة، وتعتيميّة على التداول الراهن للأفكار المقبولة».
وفي مقال منشور عام 2001 بعنوان «صدام الجهل»، يصف سعيد الواقع العربي، معتبراً أنه انحدر إلى القاع في كل المجالات المميزة. وفي الوقت الذي تسير فيه بقية دول العالم نحو الخيار الديموقراطي، يذهب العالم العربي «نحو درجات أعظم من الحكم الاستبدادي، والأوتوقراطية، وأنظمة المافيات». وإذا بالفاشية تتجذر، بشكل أصبح أي تحدٍّ لها مساوياً للشيطاني. ويضيف: «ليس عبثاً أن يتحوّل عدد كبير من الناس إلى شكل متطرف من الدين، نتيجة اليأس وغياب الأمل، وبطش الدولة الأمنية». ويخلص إلى أن قانون الطوارئ الذي اخترعته الدول الأمنية بعد الاستقلال، أبطل الحقوق الديموقراطية، ما أدّى إلى انهيار الوضع الشرعي للفرد، وتلاشي حقه الأساسي في المواطنة، وحقه في العيش الحرّ، بعيداً عن أي تهديد شخصي من الدولة.
هذا الخزي الذي يعيشه العالم العربي، نتيجة الانتهاكات المرعبة للسلطة، و«صمت المثقفين، نتيجة الخوف من مصيرٍ غامض»، ينبغي مواجهته، وفق المفكر الراحل. ولن تكون هذه المواجهة، إلا عن طريق «قوة الاحتجاج»...
وعلى صفحات الكتاب، يناقش سعيد في محاضرة طويلة بعنوان «الدور العام للكتاب والمثقفين»، الفرق بين الكاتب والمثقف، بعدما أصبح أي تعريف للكاتب والمثقف أكثر تشويشاً، بسبب توسع مملكة السياسي والشعبي بلا حدود عملياً، «حتى بتنا نشكّ إن كانت فكرة المثقف اللاسياسي والكاتب فيها كثير من المعنى».
كما ينعي سعيد صورة المثقف، كما كانت تمثّلها في فرنسا، شخصيات مثل إميل زولا، وجان بول سارتر، وميشال فوكو، وبيار بورديو... إذ حلّ ـــ بغياب هؤلاء ـــ أشخاص صغار يمثلون تذوّق المثقف الشعبي. أما في أميركا، فالسطوة للاحترافية والتخصص، ذلك أنّ «الكسب والشهرة أقوى المحفزات»، فيما تغيب عربياً ـــ إلى حد كبير ـــ صورة رجل الثقافة، أو رجل الفكر، كمحصّلة لخواء أخلاقي أنشأته «الحكومات الجمهورية العائلية». فقد ظهر في الساحة نمط من المثقفين الدينيين أو العلمانيين، ممن يتبع لسلطة لم تعد مزوّدة بحق سياسي، «ومع ذلك استطاعت الحكومات أن تختار مثقّفين ناطقين باسمها». ويشير إلى أن «البحث عن المثقفين الحقيقيين مستمر باستمرار الصراع».